أخبرتني أمي أن الموتى لا يتحركون.. لا يعودون.. لا يشعرون..
أمي الآن في السماء وهي ليست معي الآن لترى أنها كانت مخطئة!!
نعم الجثث لم تكن تتحرك.. لكنهم كانوا يتحركون!.. الأطفال.. على الموائد وفي الثلاجات وفي تلك الأسطوانات الزجاجية.. وما بين هذا كله يقفون وينظرون إليَّ وإلى النحيل الذي بدا عليه الأسى..
أنا لا أستوعب بسرعة ولا أتقبل ما لا أفهمه، لذا فالمشهد يتحول أمامي إلى صور منفصلة، لا يجمعها إلا أنني أراها كلها الآن..
هناك صورة للفتاة التي أخذوا قلبها.. إنها تقف أمامي، لكنها ترقد كذلك على إحدى الموائد شاخصة العينين تحدق في السقف إلى ما لا نهاية.. الغطاء الذي كان يغطي جثتها سقط، وهي الآن تقف جوار جثتها تنظر لها وتتحسس تجويف صدرها حيث لم يعد هناك قلب..
صورة أخرى.. هناك ذلك الطفل الأشقر.. إنه يقف جوار تلك الأسطوانة الزجاجية، لكنه داخل الإسطوانة الزجاجية كذلك.. أراه معلقًا داخلها بلا ذراعين وهناك فتحة ضخمة في جمجمته يخرج منها أنبوب سميك..
هناك صورة ذلك الطفل الذي لم تعد له أحشاء.. يقف جوار نفسه.. جوار جثته الضئيلة التي تبدو أشبه بدمية من تلك الدمى التي كانت أمي تعثر على مثلها لي في القمامة..
جوار كل جثة يقف شبحها، وكلهم أطفال يرمقونني في صمت يصمُّ الآذان!
ويقول النحيل ليبدد هذا الصمت:
- القتلى.. إنهم.. إنهم مجرد أطفال!
لكني لم أكن أفهم بعد.. لذا سألت:
- ما الذي حدث لهم؟؟
- ألم تفهم بعد؟.. التحاليل التي كانوا يطلبونها.. العينات.. الأنسجة.. إنهم يبيعون أعضاء هؤلاء الأطفال!.. يقتلونهم ويحولونهم لمجرد سلع.. أعضاء يدفع ثمنها من يحتاجها من الأغنياء.. بل إنهم لم يتركوا أجسادهم تموت بعد.. انظر.. هذا الطفل يبقون جسده حيًا للحفاظ على ما لم يتم بيعه من أعضائه بعد.. وهذه الفتاة.. إنها.. إنها تحرك جفنها!
- نعم هي تحرك جفنها.. لكن.. لكن..
- لكن هذا هو الشيء الوحيد المتبقي في وجهها.. لا عينين ولا فك سفلي.. كيف ستظل حية بعد الـ..؟
- القتلى.. القتلى..
يصرخ النحيل فيزداد خوفي.. لو سمعنا أحد الآن سوف يقبضون علينا.. بل عليَّ أنا فالنحيل لم يعد صالحًا للـ.. أعني.. أنت تفهمني!
أمّا الفتاة التي لم يعد لها قلب، فتقدمت تجاهي لتقول:
- نحن نريد أن نخرج من هنا.. نحن لا نحب هذا المكان..
عقلي لا يزال عاجزًا عن استيعاب كل ما يحدث حولي.. إنه حلم.. كابوس من تلك الكوابيس التي أخبرتني أمي أنها تنتهي ما إن أفتح عيني، فلماذا لا ينتهي هذا الكابوس؟؟
- نعم يجب أن نخرجهم من هنا..
يقولها النحيل فأصيح أنا في حيرة:
- كيف؟.. كيف سأحمل هذا كله؟.. وإلى أين سأذهب بهم؟؟
- لا يهم أين.. المهم ألا يظلوا هنا بعد الآن.. إنه حقهم الأخير..
- لكن.. أنا..
لكن أنا لا أصلح لهذه المهمة.. أنا سقطت في قبضة جارتي حين حاولت سرقة طعام من منزلها، فما الذي سيحدث لي حين أحاول أن أخرج الـ.. كم عدد هؤلاء الأطفال؟.. إن القاعة واسعة حقًا وتلك الرائحة الحارقة لا تساعدني على الرؤية رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
- لماذا تركوا القاعة مضاءة؟!!!
في لحظة وجدتني أهمس بهذا السؤال، وفي اللحظة الثانية سمعت النحيل يجيب:
- إنهم يعرفون.. يعرفون أنك هنا..
قالها وهو يشير إلى كاميرا في السقف، نظرت إليها في حيرة للحظات، قبل أن أستوعب ما يقصده..
لهذا تركوا القاعة مضاءة.. لأنهم يعرفون أنني سآتي إلى هنا..
لا أعرف كيف عرفوا لكنهم كانوا ينتظرونني، وها أنا أقف وسط الجثث والأطفال، أشعر برعب لم أشعر به في حياتي من قبل..
سوف يمزقونني هنا.. سيأخذون قلبي وذراعي، وسيضعوني في أسطوانة زجاجية ولن أرحل من هنا أبدًا، بل سأقف جوار جثتي في هذه القاعة الباردة ذات الرائحة الحارقة..
لن أصعد إلى السماء ولن أرى أمي ولن أشعر بالدفء مرة أخرى..
لكن النحيل صاح فجأة:
- وجدتها.. أسطوانات الغاز..
فالتفتُّ له وقد قررت أن أنفذ ما يقوله دون أن أحاول أن أفهم.. لا وقت للفهم.. لم يعد هناك وقت لأي شيء..
أمَّا هو فبدا عليه الحماس وهو يشير إلى الأسطوانات في ركن القاعة، مواصلاً:
- هي الحل الوحيد.. نفِّذ ما سأطلبه منك وسننهي هذا كله..
الأطفال كلهم ينظرون لي في أمل وفي الأعلى تتعالى أصوات أقدام تجري متجهة إلى هنا..
الليلة سننهي هذا كله..
ولن أفهم حتى كيف؟!
حين وصل الأصلع وذو الذقن ومعهم رجال الأمن -الحقيقيون الذين يحملون الأسلحة- كنت شارفت على الانتهاء وكنت أشعر بالإرهاق الشديد.. لم أنم جيدًا منذ فترة والطعام تركته في منزلي منذ فترة.. لابد أنه فسد وأن رائحته سوف......
لكن الأصلع قال في غضب أعادني إلى القاعة:
- كنت أعرف أنك تدَّعي حالتك هذه.. لا أحد بهذه السذاجة أبدًا.. لا أحد..
فابتسمت في رضا رغمًا عني.. أخيرًا أجد شخصًا لا يظن أن لدي (حالة) ما كما يذكرني الآخرون.. أما ذو الذقن فقال:
- ما أوَّد معرفته حقًا هو كيف اكتشفت أمرنا؟.. كيف وصلت إلى هنا؟
فأجبت:
- النحيل.. إنه مـ........
لكن الحيرة التي بدوت عليها أجبرتني على فهم أنهم لا يرون النحيل مثلي.. لا يرون النحيل ولا الأطفال الذين أحاطوا بي وقد بدا عليهم الخوف بينما وقف النحيل خلف كتفي مباشرة ليهمس في أذني:
- استمر.. لا تتوقف عن الحديث كي لا يشعروا.. سينتهي الأمر خلال لحظات..
لكن الأصلع كان من تحدث ليقول:
- وما الذي كنت تفكر في فعله هنا؟.. أتظن أنك كنت ستسرقهم لتبيعهم بنفسك؟.. أتظن أن الأمر سهل أيها الأحمق؟!
- أنا.. أنا أريد أن أخرجهم من هنا..
أقولها فينفجر الأصلع في الضحك، بينما تبدو الدهشة على ذي الذقن، الذي قال:
- تخرجهم؟.. إلى أين؟
- لا أعرف!
فيشير الأصلع تجاهي ويصيح ضاحكًا:
- إنه أحمق.. مختل.. أحمق.. إنه لم يفكر حتى في الخروج من هنا..
فيقول النحيل في أذني:
- سنخرج من هنا.. كلنا سنخرج.. استمر..
وأنا أعرف أنه يريدني أن أستمر كي لا يسمعوا صوت الهسيس الذي تصدره الأنابيب.. لكني خائف حقًا.. خائف ولا أجد ما أقوله سوى:
- أنتم قتلة..
قلتها فبدت الصدمة على الأصلع وذي الذقن، قبل أن يصرخ الأول ثائرًا:
- كيف تجرؤ؟!
أجرؤ لأنني بدأت أفهم أنه لم يعد هناك فارق.. لحظات وسنخرج كلنا من هنا..
ينتشر الأطفال في المكان كأنهم يودِّعون جثثهم، ويتحرك النحيل ليقف بين الأصلع وذي الذقن ليبتسم لي مشجعًا.. أبادله الابتسام وأقول:
- أنا.. فهمت..
فينتفخ وجهه غضبًا، ويشير إلى أحد رجال الأمن آمرًا، ليقول:
- استعد..
فيسدد رجل الأمن الحقيقي ذو السلاح مسدسه إلى صدري، وأغمض أنا عيني في اللحظة التي يبدو فيها على ذي الذقن أنه يتشمم رائحة الغاز..
أفتح عيني فأجد أن كل شيء من حولي يتحرك ببطء شديد..
الفتاة تبتسم لي شاكرة ومن خلفها الأطفال ينظرون لي في امتنان..
الأصلع يشير بيده لرجل الأمن..
ذو الذقن يصيح وقد رأى أسطوانات الغاز المفتوحة المنتشرة تحت الأسرَّة..
النحيل يشعل سيجارته الأخيرة في هدوء تام..
رجل الأمن الحقيقي ذو المسدس يطلق رصاصته فأشعر بالألم في صدري وبالأصوات تغيب من حولي.. ثم أراها..
أرى أمي تمد يدها لي وهي تبتسم لي في حنان افتقدته طويلاً.. أمي التي في السماء هبطت لتأخذني..
النيران تنبت من الهواء فجأة، ويصرخ كل الموجودين في القاعة لكني لا أهتم..
لقد تلاشى الألم.. تلاشت الرائحة الحارقة.. تلاشى البرد..
أنا أحب أمي جدًا والآن سأرحل معها..
سأحكي لها عن كل ما حدث.. عن النحيل والأطفال والليالي التي لم أجد فيها طعامًا، والتي شعرت فيها بالوحدة..
سأخبرها عن كل من وصفوني بالـ(المتخلف) وكل من سألوني عن (حالتي) هذه دون أن أفهم ما الذي يقصدونه..
وستصغي هي إليَّ ثم ستتركني أنام جوارها..
وهذه المرة..
لن أفارقها أبدًا..
أمي الآن في السماء وهي ليست معي الآن لترى أنها كانت مخطئة!!
نعم الجثث لم تكن تتحرك.. لكنهم كانوا يتحركون!.. الأطفال.. على الموائد وفي الثلاجات وفي تلك الأسطوانات الزجاجية.. وما بين هذا كله يقفون وينظرون إليَّ وإلى النحيل الذي بدا عليه الأسى..
أنا لا أستوعب بسرعة ولا أتقبل ما لا أفهمه، لذا فالمشهد يتحول أمامي إلى صور منفصلة، لا يجمعها إلا أنني أراها كلها الآن..
هناك صورة للفتاة التي أخذوا قلبها.. إنها تقف أمامي، لكنها ترقد كذلك على إحدى الموائد شاخصة العينين تحدق في السقف إلى ما لا نهاية.. الغطاء الذي كان يغطي جثتها سقط، وهي الآن تقف جوار جثتها تنظر لها وتتحسس تجويف صدرها حيث لم يعد هناك قلب..
صورة أخرى.. هناك ذلك الطفل الأشقر.. إنه يقف جوار تلك الأسطوانة الزجاجية، لكنه داخل الإسطوانة الزجاجية كذلك.. أراه معلقًا داخلها بلا ذراعين وهناك فتحة ضخمة في جمجمته يخرج منها أنبوب سميك..
هناك صورة ذلك الطفل الذي لم تعد له أحشاء.. يقف جوار نفسه.. جوار جثته الضئيلة التي تبدو أشبه بدمية من تلك الدمى التي كانت أمي تعثر على مثلها لي في القمامة..
جوار كل جثة يقف شبحها، وكلهم أطفال يرمقونني في صمت يصمُّ الآذان!
ويقول النحيل ليبدد هذا الصمت:
- القتلى.. إنهم.. إنهم مجرد أطفال!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
لكني لم أكن أفهم بعد.. لذا سألت:
- ما الذي حدث لهم؟؟
- ألم تفهم بعد؟.. التحاليل التي كانوا يطلبونها.. العينات.. الأنسجة.. إنهم يبيعون أعضاء هؤلاء الأطفال!.. يقتلونهم ويحولونهم لمجرد سلع.. أعضاء يدفع ثمنها من يحتاجها من الأغنياء.. بل إنهم لم يتركوا أجسادهم تموت بعد.. انظر.. هذا الطفل يبقون جسده حيًا للحفاظ على ما لم يتم بيعه من أعضائه بعد.. وهذه الفتاة.. إنها.. إنها تحرك جفنها!
- نعم هي تحرك جفنها.. لكن.. لكن..
- لكن هذا هو الشيء الوحيد المتبقي في وجهها.. لا عينين ولا فك سفلي.. كيف ستظل حية بعد الـ..؟
- القتلى.. القتلى..
يصرخ النحيل فيزداد خوفي.. لو سمعنا أحد الآن سوف يقبضون علينا.. بل عليَّ أنا فالنحيل لم يعد صالحًا للـ.. أعني.. أنت تفهمني!
أمّا الفتاة التي لم يعد لها قلب، فتقدمت تجاهي لتقول:
- نحن نريد أن نخرج من هنا.. نحن لا نحب هذا المكان..
عقلي لا يزال عاجزًا عن استيعاب كل ما يحدث حولي.. إنه حلم.. كابوس من تلك الكوابيس التي أخبرتني أمي أنها تنتهي ما إن أفتح عيني، فلماذا لا ينتهي هذا الكابوس؟؟
- نعم يجب أن نخرجهم من هنا..
يقولها النحيل فأصيح أنا في حيرة:
- كيف؟.. كيف سأحمل هذا كله؟.. وإلى أين سأذهب بهم؟؟
- لا يهم أين.. المهم ألا يظلوا هنا بعد الآن.. إنه حقهم الأخير..
- لكن.. أنا..
لكن أنا لا أصلح لهذه المهمة.. أنا سقطت في قبضة جارتي حين حاولت سرقة طعام من منزلها، فما الذي سيحدث لي حين أحاول أن أخرج الـ.. كم عدد هؤلاء الأطفال؟.. إن القاعة واسعة حقًا وتلك الرائحة الحارقة لا تساعدني على الرؤية رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
رغم أن القاعة مضاءة..
- لماذا تركوا القاعة مضاءة؟!!!
في لحظة وجدتني أهمس بهذا السؤال، وفي اللحظة الثانية سمعت النحيل يجيب:
- إنهم يعرفون.. يعرفون أنك هنا..
قالها وهو يشير إلى كاميرا في السقف، نظرت إليها في حيرة للحظات، قبل أن أستوعب ما يقصده..
لهذا تركوا القاعة مضاءة.. لأنهم يعرفون أنني سآتي إلى هنا..
لا أعرف كيف عرفوا لكنهم كانوا ينتظرونني، وها أنا أقف وسط الجثث والأطفال، أشعر برعب لم أشعر به في حياتي من قبل..
سوف يمزقونني هنا.. سيأخذون قلبي وذراعي، وسيضعوني في أسطوانة زجاجية ولن أرحل من هنا أبدًا، بل سأقف جوار جثتي في هذه القاعة الباردة ذات الرائحة الحارقة..
لن أصعد إلى السماء ولن أرى أمي ولن أشعر بالدفء مرة أخرى..
لكن النحيل صاح فجأة:
- وجدتها.. أسطوانات الغاز..
فالتفتُّ له وقد قررت أن أنفذ ما يقوله دون أن أحاول أن أفهم.. لا وقت للفهم.. لم يعد هناك وقت لأي شيء..
أمَّا هو فبدا عليه الحماس وهو يشير إلى الأسطوانات في ركن القاعة، مواصلاً:
- هي الحل الوحيد.. نفِّذ ما سأطلبه منك وسننهي هذا كله..
الأطفال كلهم ينظرون لي في أمل وفي الأعلى تتعالى أصوات أقدام تجري متجهة إلى هنا..
الليلة سننهي هذا كله..
ولن أفهم حتى كيف؟!
* * *
حين وصل الأصلع وذو الذقن ومعهم رجال الأمن -الحقيقيون الذين يحملون الأسلحة- كنت شارفت على الانتهاء وكنت أشعر بالإرهاق الشديد.. لم أنم جيدًا منذ فترة والطعام تركته في منزلي منذ فترة.. لابد أنه فسد وأن رائحته سوف......
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
لكن الأصلع قال في غضب أعادني إلى القاعة:
- كنت أعرف أنك تدَّعي حالتك هذه.. لا أحد بهذه السذاجة أبدًا.. لا أحد..
فابتسمت في رضا رغمًا عني.. أخيرًا أجد شخصًا لا يظن أن لدي (حالة) ما كما يذكرني الآخرون.. أما ذو الذقن فقال:
- ما أوَّد معرفته حقًا هو كيف اكتشفت أمرنا؟.. كيف وصلت إلى هنا؟
فأجبت:
- النحيل.. إنه مـ........
لكن الحيرة التي بدوت عليها أجبرتني على فهم أنهم لا يرون النحيل مثلي.. لا يرون النحيل ولا الأطفال الذين أحاطوا بي وقد بدا عليهم الخوف بينما وقف النحيل خلف كتفي مباشرة ليهمس في أذني:
- استمر.. لا تتوقف عن الحديث كي لا يشعروا.. سينتهي الأمر خلال لحظات..
لكن الأصلع كان من تحدث ليقول:
- وما الذي كنت تفكر في فعله هنا؟.. أتظن أنك كنت ستسرقهم لتبيعهم بنفسك؟.. أتظن أن الأمر سهل أيها الأحمق؟!
- أنا.. أنا أريد أن أخرجهم من هنا..
أقولها فينفجر الأصلع في الضحك، بينما تبدو الدهشة على ذي الذقن، الذي قال:
- تخرجهم؟.. إلى أين؟
- لا أعرف!
فيشير الأصلع تجاهي ويصيح ضاحكًا:
- إنه أحمق.. مختل.. أحمق.. إنه لم يفكر حتى في الخروج من هنا..
فيقول النحيل في أذني:
- سنخرج من هنا.. كلنا سنخرج.. استمر..
وأنا أعرف أنه يريدني أن أستمر كي لا يسمعوا صوت الهسيس الذي تصدره الأنابيب.. لكني خائف حقًا.. خائف ولا أجد ما أقوله سوى:
- أنتم قتلة..
قلتها فبدت الصدمة على الأصلع وذي الذقن، قبل أن يصرخ الأول ثائرًا:
- كيف تجرؤ؟!
أجرؤ لأنني بدأت أفهم أنه لم يعد هناك فارق.. لحظات وسنخرج كلنا من هنا..
ينتشر الأطفال في المكان كأنهم يودِّعون جثثهم، ويتحرك النحيل ليقف بين الأصلع وذي الذقن ليبتسم لي مشجعًا.. أبادله الابتسام وأقول:
- أنا.. فهمت..
فينتفخ وجهه غضبًا، ويشير إلى أحد رجال الأمن آمرًا، ليقول:
- استعد..
فيسدد رجل الأمن الحقيقي ذو السلاح مسدسه إلى صدري، وأغمض أنا عيني في اللحظة التي يبدو فيها على ذي الذقن أنه يتشمم رائحة الغاز..
أفتح عيني فأجد أن كل شيء من حولي يتحرك ببطء شديد..
الفتاة تبتسم لي شاكرة ومن خلفها الأطفال ينظرون لي في امتنان..
الأصلع يشير بيده لرجل الأمن..
ذو الذقن يصيح وقد رأى أسطوانات الغاز المفتوحة المنتشرة تحت الأسرَّة..
النحيل يشعل سيجارته الأخيرة في هدوء تام..
رجل الأمن الحقيقي ذو المسدس يطلق رصاصته فأشعر بالألم في صدري وبالأصوات تغيب من حولي.. ثم أراها..
أرى أمي تمد يدها لي وهي تبتسم لي في حنان افتقدته طويلاً.. أمي التي في السماء هبطت لتأخذني..
النيران تنبت من الهواء فجأة، ويصرخ كل الموجودين في القاعة لكني لا أهتم..
لقد تلاشى الألم.. تلاشت الرائحة الحارقة.. تلاشى البرد..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أنا أحب أمي جدًا والآن سأرحل معها..
سأحكي لها عن كل ما حدث.. عن النحيل والأطفال والليالي التي لم أجد فيها طعامًا، والتي شعرت فيها بالوحدة..
سأخبرها عن كل من وصفوني بالـ(المتخلف) وكل من سألوني عن (حالتي) هذه دون أن أفهم ما الذي يقصدونه..
وستصغي هي إليَّ ثم ستتركني أنام جوارها..
وهذه المرة..
لن أفارقها أبدًا..
* * *
تمت
تمت