حين عرف النحيف أنني جائع، أخذني إلى مطعم قريب مؤكِّدًا لي أنه مَن سيدفع؛ فهو يحتاجني وبشدة.. نعم.. أنا أعرف أنه قال إن حياتي في خطر، لكنني جائع!
هكذا جلستُ في ذلك المطعم أتناول ذلك الحساء الساخن بنَهم، بينما جلس النحيف أمامي يرمقني باهتمام وهو يدخّن..
لكني لم أكن أبالي بسجائره هذه المرة.. إننا لسنا في العمل ومسموح لي بأن أتحدث معه مادمنا خارج ساعات العمل الرسمية.. لكني كنت منشغلاً بطعامي، فتحدث هو ليقول:
- أنت رأيت هذه الفتاة إذن؟.. تلك التي كانت في الصورة؟
- مممممم..
- سأنتظر حتى تنهي طعامك إذن، فما سأخبرك به قد يفسد شهيتك تمامًا..
و أنا أريد أن أعرف حقًا من هي هذه الفتاة ولماذا ظهرت لي.. لذا التهمت كل ما في طبقي بسرعة، ثم اعتدلت محاولاً مقاومة النعاس الذي يتلو الشبع..
بدأ النحيف يشرح، فقال:
- أنت تعرف أننا لا نعمل في مكان طبيعي.. لا أحد يعرف عمله بالضبط ولا إلى أين يؤدي.. غير مسموح للعاملين بالتحدث مع بعضهم البعض.. غير مسموح بالاطلاع على أي ملف يخصّ أي حالة تعمل عليها.. حتى الحالات التي أجري لها الفحوصات كل يوم، لم ألتقِ بها قط.. هم يأتون لي بالعينات، وأنا أمنحهم النتائج.. عينات بشرية بالمناسبة..
لن أنام.. لن أنام!
- شروط غريبة لكننا تعلمنا أن نتجاهلها مع الأرقام المرضية، التي نحصل عليها في بداية كل شهر.. ثم يمرّ الوقت وتبدأ في تكوين نظريتك الخاصة عمّا يحدث..
- نـ.. نظريتك!
- أقصد أنك تتخيل ما يرضيك.. أنا مثلاً أتخيل أنني أعمل في مستشفى سرية.. أنت تـ..
- أنا أقف في مكاني ولا أسمح لأحد بالدخول أو الخروج من البوابة الخلفية.. هذا هو عملي..
- أعرف.. المهم أنها كلها مجرد نظريات.. أما ما يحدث في الواقع.. فلا أحد منا يعرف..
كنت قد بدأت أشعر بالملل.. ما الذي يريده هذا النحيف؟؟
أشعل النحيف سيجارة أخرى ستقتله يومًا ما، وتابع:
- لكني اعتدت أن أخرج لأدخن.. غير مسموح بهذا بالطبع.. لكن من الممكن أن تخالف القواعد طالما لا أحد يراك.. ولم أكن وحدي من يمارس هذه العادة.. كان هناك رجل آخر وكان اسمه "صبري".. كنا نلتقي كل يوم قبل أن تبدأ أنت العمل معنا لندخن ولنتسامر قليلاً.. كان "صبري" مثلنا لا يعرف ما يحدث بالضبط.. لكنه رأى تلك الفتاة.. تمامًا كما حدث معك..
- أنا رأيت الفتاة.. الدماء كانت تغطيها.. لكنهم أخبروني ألاّ أتحدث عنها أبدًا..
- توقعت هذا.. فهذا ما حدث مع صديقي "صبري".. في البداية لم أصدقه ولا يمكنك أن تلُمني في هذه النقطة.. شبح فتاة تغطيها الدماء؟.. الأمر عسير التصديق حقًا.. لكنه استحوذ على صديقي "صبري" تمامًا.. لم أعد أراه.. لم يعد يأتي ليدخن معي.. ومع الوقت نسيته هو والفتاة تمامًا.. كما أخبرتك.. المرتبات التي نحصل عليها مُرضية وتساعد على النسيان.. لكن في إحدى الليالي فوجئت بذلك الطرد يصل إلى منزلي وكان مُرسِله هو "صبري".. أمّا ما كان في الطرد، فكان هذا..
و أخرج النحيف ملفًا من حقيبته الصغيرة التي استقرت جواره، ثم فتح الملف لأجد صورة الفتاة حين كانت لا تزال فتاة.. كانت تبدو طبيعية وكانت تبتسم ابتسامة جميلة..
مع الصورة كانت هناك مجموعة من الأوراق، التي أمسك بها النحيف، ليقول:
- كان اسمها "ندى" وهو اسم يليق بها حقًا.. وكانت في العاشرة من العمر.. ووفقًا لهذا الملف لم تعد "ندى" على قيد الحياة..
- صعدت إلى السماء؟
- ماذا؟؟.. نعم.. صعدت إلى السماء.. لكنها فعلتها هناك.. في ذلك المبنى.. لسبب ما لم يذكره الملف، عاشت "ندى" داخل ذلك المبنى وماتت فيه.. لكنّ شبحها ظلّ هناك ليذكرنا أنها كانت في ذلك المبنى الذي نعمل فيه دون أن نعرف ما الذي يحدث فيه بالضبط..
قالها النحيف فعدت أشعر بالبرد.. والخوف..
أمّا هو فأطفأ سيجارته، ليردف:
- "صبري" اختفى بعدها تمامًا.. أرسل لي الملف واختفى كأنه لم يكن يعمل معنا قط.. مع الوقت لم أقاوم أن أسأل عليه؛ لأجد أنه لا يوجد من يعرفه، أو أنهم ينكرون أنه كان يعمل معنا في يوم من الأيام.. مرة أخرى لا أملك إلا أن أبني نظريتي الخاصة عمّا حدث، وهذه النظرية تتلخص في كلمة واحدة.. أنه مات..
- مات؟!
- لا يوجد لديّ تفسير آخر مقنع.. البشر لا يختفون هكذا يا صديقي.. لو كان رحل، فما الذي يمنعه من محاولة الاتصال بي؟؟.. على أية حال أدركت أنني عرفت أكثر من اللازم وقررت أن أحتفظ بكل ما عرفته لنفسي، فلم أذكر الملف أو الفتاة لمخلوق، ثم قررت أن أنسى كل ما حدث، حتى جئت أنت ورأيت الفتاة..
هنا وجدتني أسأله في خوف بالغ:
- هل يعني هذا أنني.. أنني سأموت؟؟
قلتها فنظر لي النحيف بإشفاق، قبل أن يجيب أخيرًا:
- ربما.. لكني لم آت هنا لأخبرك بهذا.. بل لأساعدك..
- تساعدني؟.. كيف؟؟
- بأن تساعدني أنت أيضًا.. يجب أن تساعدني على التسلل إلى المبنى بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية.. هذا هو الحل الوحيد..
* * *
أنا أعرف عملي جيدًا وأتقنه..
غير مسموح لأحد بالدخول أو الخروج من البوابة الخلفية.. غير مسموح بالتحدث مع أحد العاملين في المبنى.. غير مسموح بالتحدث عن الفتاة الشبح التي تغطيها الدماء مع أي شخص مهما كان السبب!
أنا خالفت القاعدة الثانية والثالثة وهذا يكفي.. لكني لن أخالف القاعدة الأولى أبدًا..
لهذا وقفت في هذا المطعم والنحيل ينظر لي في دهشة، ثم تركته وغادرت المكان، لينادي هو عليّ، لكني لم أتوقف لحظة، بل واصلت طريقي مبتعدًا..
لن أطرد من عملي بسببه.. لن أترك قريبي الذي وصفني بالمتخلف، يعلن للجميع أنه كان محقًا..
هكذا اتجهت بخطوات سريعة إلى منزلي الوحيد البارد، لأشعر به يجري ورائي وينادي عليّ، فلم أتوقف حتى بلغني، ليمسك بي صائحًا:
- حاول أن تفهمني.. أنا سأفعل هذا من أجلك.. من أجلنا..
- غير مسموح..
- لن ينتهي الأمر كما تظن.. سترى هذه الفتاة مرة أخرى.. إنها تبحث عمّن يساعدها، ولقد اختارتك فلا تتخلى عنها..
- غير مسموح..
- أرجوك.. نحن يجبّ أن..
- غير مسموح..
صحت بها هذه المرة، فلم يملك إلا أن يترك ذراعي، ليتركني أبتعد عنه وقد بدا عليه الإحباط..
إنه يظنني أحمقَ لأسمح له بمخالفة القواعد، لكني لست كذلك.. أيًّا ما كانت حالتي التي يتحدث عنها الجميع، فإنها لن تجبرني على مخالفة القواعد أبدًا..
أبدًا..
* * *
في اليوم التالي كنت أشعر بالنعاس، لكني أخذت أقاومه وأنا أقف في مكاني عند البوابة الخلفية للمبنى، وقد قررت أنني لو رأيت النحيف يحاول الاقتراب مني، فسوف أبلغ عنه على الفور..
سأخبرهم بكل شيء لو فعلها.. سأخبرهم أنه أتى إلى منزلي.. أتى وأراني صورة الفتاة والملف.. وأنه طلب مني مساعدته على التسلل إلى المبنى..
نعم.. سأفعلها وليكن ما يكون..
المهم الآن أن أقاوم النعاس، فغير مسموح لي بالنوم خلال ساعات العمل الرسمية.. وأنا لم أنم جيدًا ليلة أمس..
لكن الساعات تمر ببطء شديد هنا..
في صغري حاولت أمي أن ترسلني إلى المدرسة لأتعلم.. ناظر المدرسة أخبرها أن من هم في حالتي لا يصلحون للتعليم، لكنها توسلت له طويلاً فوافق مضطرًا..
هكذا كنت أستيقظ في الصباح الباكر، لأرتدي زي المدرسة – الذي كنت أكرهه – لأذهب إلى المدرسة، حيث يمر الوقت ببطء شديد شديد..
في الطابور وفي الفسحة، يسخر مني الجميع دون أن أفهم السبب، وأثناء الحصص يضعوننا على تلك المقاعد الخشبية غير المريحة؛ ليشرح المدرس أشياء لا أفهمها، لكنها تجبرني على النعاس..
أنام فيضربني المدرس.. ويعيدوني إلى المنزل لتضربني أمي.. ولو أتى الليل ورفضت النوم كى لا أستيقظ للمدرسة غدًا، تضربني مرة أخرى!
في النهاية زاد السعال على أمي، ولم تجد من يرعاها سواي، فتركت المدرسة لأبقى جوارها، مما ضايقها وأسعدني.. في النهاية أصبح بإمكاني النوم حينما أريد..
لكني لم أعد صغيرًا الآن.. بل أنا رجل.. ورجل أمن كذلك، غير مسموح لي بالنوم خلال ساعات العمل الرسمية..
لكن.. ربما كان من المسموح لي أن أستند على الجدار.. لم أعد أستطيع الاستمرار في الوقوف هكذا، والشمس الحارة تضربني طيلة الوقت..
لا.. لن أنام.. سأستند فقط حتى أرتاح.. فأنا لم أنم ليلة أمس.. النحيف زارني.. صورة الفتاة.. كان اسمها "ندى".. وكانت تبتسم.. والآن هي في حاجة لي.. لكن..
غير مسموح..
غير..
غيـ...
* * *
وحين استيقظت رأيت الفتاة التي تغطيها الدماء مرة أخرى تقف أمامي مباشرة..
كنت أظن أنني أحلم، لكني عرفت أنني استيقظت حين شعرت بالأرض الرملية أسفلي، لأجد أنني أسفل تلك الشجرة قرب المبنى .. متى انتقلت إلى هناك؟؟
كانت الفتاة تقف جوار الشجرة وتنظر لي مباشرة، فكدت أصرخ في فزع، لكنني تذكرت الأصلع وتحذيره لي، فتماسكت.. غير مسموح لي بالصراخ!
ثم رأيت باقي الأطفال فجأة..
لا أذكر عددهم.. لكن الدماء كانت تغطيهم هم أيضًا وأحدهم لم يكن بذراعين.. لكنهم كانوا يبتسمون لي..
غير مسموح لي بالصراخ!
كانوا ينظرون لي وكنت أراهم في وضوح، لكنني كنت أعرف أنهم أشباح.. هم من نقلوني إلى أسفل الشجرة، وهم الآن يحيطون بي لأنه دوري كما أخبرني النحيف..
سيقتلونني الآن ويأخذوني معهم إلى داخل الشجرة، لكن..
غير مسموح لي بالصراخ!
كنت أشعر بالبرد الشديد وبأنني عاجز عن الحركة، لكني أخذت أنظر لهم وهم يقتربون مني ببطء، قبل أن تقول الفتاة بصوت لم أسمع مثله من قبل أبدًا:
- إنهم يدفعون جيدًا.. لهذا أصبحنا كذلك..
إنها تتحدث عن أصحاب ذلك المبنى.. النحيف أخبرني أنهم يدفعون جيدًا، لكنهم.. لكنهم لا يدفعون لي..
حاولت أن أرد، لكني لم أستطع.. أنا لا أريد أن أتحول لواحد منهم..
لا أريد أن أتحول إلى شبح..
أمي أخبرتني أن الأشباح لا تؤذي، لكني أعرف أن شبح تلك المرأة العجوز هو ما أخذ أمي..
لم أخبر أحدا بما رأيت، لكن في ذلك اليوم الذي اجتمع فيه أقاربي حول فراش أمي، قبل أن تتركني لتصعد إلى السماء، رأيت شبح المرأة العجوز..
كانت تقف قرب فراش أمي ولم يكن أحد يراها سواي ..
و كانت المرأة العجوز تبتسم!
و أنا أريد أن أصعد إلى السماء لأرى أمي، لكني لا أريد أن أدخل إلى تلك الشجرة مع هؤلاء الأطفال الذين تغطيهم الدماء..
مرة أخرى تحدثت الفتاة بصوتها العجيب لتقول:
- نحن نريد الخروج من هنا.. ساعدنا..
ثم إنها كشفت عن صدرها، لأرى ذلك التجويف الضخم الذي تنزّ منه الدماء، قبل أن تقول هي:
- لقد أخذوا قلبي..
- !!!!
* * *
يتبع