حين كنت صغيرًا رأيت شبحًا!
أنا أذكر هذه الليلة جيدًا.. كنت نائمًا على فراشي في غرفتي, حين سمعت صوت الطرقات على نافذة الغرفة, فاستيقظت لأتَّجه إليها..
في البداية لم أرَ أي شيء.. ثم.. ثم..
ثم رأيتها..
امرأة عجوز قبيحة ظهرت فجأة خلف النافذة, ونظرت لي مباشرة وهي تهمس باسم أمي, فصرختُ في رعب لدرجة أنني بللت ملابسي.. اختفت المرأة العجوز, لكنني أخذت أصرخ وأصرخ..
ليلتها استيقظت أمي على صراخي, وحين رأت ملابسي صفعتني لأول مرة في حياتي, فأخذت أبكي دون أن أستطيع التوقف..
لكن أمي لم تكن قاسية.. ليلتها وبعد أن هدأت قليلاً, أعدّت لي كوبًا من الحليب الدافيء وأخذتني لأنام جوارها في غرفتها, فحكيت لها كل شيء..
وحين انتهيت ربتت أمي على رأسي بحنان, وأخبرتني أنني لو رأيت شبحًا مرة أخرى؛ فعليّ أن أغمض عيني وأفكر في شيء أحبّه.. بعدها سأفتح عينيّ لأجده وقد اختفى!
لم أنس هذه الليلة أبدًا, لكني لم أر أشباحًا بعدها..
حتى أمي لم أعد أراها.. فهي كما أخبرني قريبي هناك..
في السماء..
وأنا أعرف أنني لست ذكيًا, فأنا لا أجيد القراءة والكتابة كقريبي الذي وصفني بـ (المتخلّف), لكني أعرف أن البشر لا يخرجون من الجدران.. هكذا عرفت أنها شبح..
رأيتها تخرج من الجدار فتجمدّت في مكاني, وقد زادت البرودة من حولي أكثر وأكثر, ثم رأيتها تتجه نحوي..
كانت فتاة صغيرة وكانت ترتدي ثوبًا أبيض, لكنه كان ملوّثًا بالدماء.. وجهها وشعرها أيضًا كانا ملوثين بالدماء.. وكانت تبتسم!
تذكرّت ما علمتني أمي إياه, فأغلقت عيني وأخذت أبحث عن شيء أحبّه لأفكر فيه..
أنا أحبّ المربى.. لكن لم يعدّ أحد يحضرها لي منذ رحلت أمي.. أنا أحبّ القطط, لكن قريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنه لن يكون عندي وقت لأقتني قطة.. أنا أحبّ أمي لكنها تركتني و..و..
أنا.. أنا..
أنا خائف!
كانت الفتاة المخيفة تتجه نحوي وهي تشير بإصبعها تجاهي, فأغلقت عيني بقوة والبرودة من حولي تشتد وتشتد, ثم شعرت بها تمرّ من جواري لتتجاوزني, ولتواصل طريقها مبتعدة..
أنا.. أنا..
أنا نجوت!
فتحت عيني ببطء فرأيتها تواصل طريقها إلى تلك الصحراء التي تحيط بنا, لتتجه إلى تلك الشجرة الضخمة وسط الرمال.. وكانت تشير بإصبعها تجاه الشجرة..
فتاة خرجت من الجدار وتتجه إلى الشجرة.. أنا لا أفهم شيئًا!
هكذا اعتدلت وأخذت أنظر لها في حيرة, لتلتفت هي لي ولتقل شيئًا ما لم أسمعه, قبل أن تدخل الشجرة لتغيب في جذعها..
ما رأيته أخافني بشدة, لكني لم أتمكّن من الهرب حينها.. غير مسموح لي بترك مكاني خلال ساعات العمل الرسمية!
لكني لم أضغط على الزر في الجدار كذلك.. لم أجرؤ على الحركة لشدة خوفي..
ثم إن الفتاة لم تخرج من البوابة الخلفية, بل من الجدار والآن اختفت في الشجرة كأنها لم تكن موجودة أصلاً..
أنا أذكر أن هذا كان آخر شيء رأيته..
بعد هذا شعرت بظلام يحيط بي فجأة.. شعرت بأنني عاجز عن الوقوف.. وبأنني أسقط على الأرض و.. و..
ولم أعُد أذكر شيئًا بعدها..
ثم استيقظت لأجدني داخل المبنى الذي كان من الممنوع عليّ دخوله..
كنت ممددًا على فراش في غرفة خاوية, فقمت من عليه وأنا أشعر بالدوار.. ما الذي حدث لي؟
حاولت الخروج من الغرفة فلم أستطع.. الباب مغلق من الخارج وأنا أريد الخروج لكن.. لكن..
لكن فُتِح الباب فجأة ليدخل ذلك الرجل الأصلع القصير.. لم أكن قد رأيته من قبل منذ أن تسلمت عملي الذي اتقنه هنا, لذا نظرت له في حيرة, ليشير هو لي قائلاً:
اجلس..
فأطعته على الفور, وجلست على طرف الفراش وأنا أنظر له في ترقّب.. أمّا هو فوقف أمامي ليقول:
أوّد أن أعرف منك ما حدث بالضبط..
فأجبته:
تلك الفتاة.. لقد خرجت من الجدار واتجهت نحوي.. الدماء.. كانت مغطاة بالدماء و..
مهلاً.. تقول إنها خرجت من الجدار؟؟
نعم.. لقد كانت شبحا.. خرجت من الجدار واتجهت إلى تلك الشجرة لتختفي فيها و..
فأشار لي مرة أخرى, ليقاطعني:
انتظر هنا..
ثم خرج من الغرفة فلم أتحرك من مكاني, حتى عاد مرة أخرى ومعه رجل آخر ذو ذقن بيضاء, ليشير عليّ محدثًا الرجل ذا الذقن:
يقول إنه رأى شبحا... هل صدقتني الآن؟.. إنه لا يصلح للعمل معنا..
فقال ذو الذقن:
ربما لم تفهم ما يعنيه جيدًا.. لابدّ أن هناك خطأ ما..
ثم التفت ذو الذقن لي, ليقول:
تقول إنك رأيت فتاة صغيرة؟
نعم..
صِفها لي..
هنا حاولتُ أن أتذكر ملامح تلك الفتاة, لأجد أنني عاجز تمامًا عن هذا..
أنا أتقن عملي لكني لا أتذكر ملامح الفتاة أبدًا.. فقط أذكر أنها..
لقد كانت.. كانت تبتسم!
قلتها بتردد, فتبادل الأصلع وذو الذقن نظرة سريعة، قبل أن يقول الأصلع:
إنه يهذي.. أخبرتك أن من في حالته لا يصلحون للعمل و..
لكنه رأى فتاة تغطيها الدماء.. أنت تعرف أن هذا حدث..
وأنت تعرف أن هذا حدث قبل أن يأتي للعمل معنا.. فكيف رآها إذن؟؟
فلم يجبّ ذو الذقن هذه المرة بل بدت عليه الحيرة.. أمّا أنا فشعرت بالخوف.. الأصلع لا يريدني هنا.. مرة أخرى يتحدث أحدهم عن (حالتي) لكن هذه المرة ستكون (حالتي) هذه هي السبب في طردي من العمل الوحيد الذي أحبّه وأتقنه..
تحدّث ذو الذقن أخيرًا, ليقول لي:
أخبرني بصراحة.. هل حاولت الدخول إلى المبنى؟
لا..
هل تحدثت مع أحد العاملين هنا؟
لا..
وأنا لم أكذب!.. النحيل كان يحدّث نفسه, لكني لم أرد عليه قط..
- هل كنت نائمًا ؟.. أعني ربما كنت تحلم..
- لا.. غير مسموح لي بالنوم خلال ساعات العمل الرسمية..
عاد الأصلع وذو الذقن يتبادلان النظرات, قبل أن يخرجا من الغرفة, دون أن يوجِّها لي كلمة إضافية, لأظل مكاني أنتظر في قلق.. أنا لا أريد أن أصبح بلا عمل..
لا أريد أن أعود لمنزلي البارد الخاوي؛ لأعيش فيه بمفردي..
مرّ وقت طويل عليّ وأنا أنتظر في مكاني دون أن يأتي أحد, قبل أن يفتح الباب أخيرًا ليدخل النحيل الذي يدخّن هذه المرة حاملاً حقيبة صغيرة, فقلت له على الفور:
أنا لم أكن أحلم.. صدقني.. لقد رأيت هذه الفتاة التي تغطيها الدماء..
لكن النحيل بدا وكأنه لم يَرني من قبل.. فقط وضع الحقيبة جواري وفتحها ليخرج محقنًا, وهو يقول:
سآخذ عينة دماء منك.. لا تخف..
لكني نظرت للمحقن في يده برعب.. أنا أذكر المحاقن وأعرف ما الذي تفعله.. أمي كان الأطباء يغرسون فيها المحاقن طيلة الوقت, قبل أن تصعد إلى السماء..
والآن أتى دوري لألحق بها!
غرس النحيل المحقن في ذراعي؛ فشعرت بالألم وأغلقت عيني بقوة, حتى انتهى ليخرجه من ذراعي قائلاً:
انتهى الأمر..
ففتحت عينيّ ورأيته يعيد المحقن الممتليء إلى حقيبته, قبل أن يميل عليّ فجأة ليهمس في أذني:
أنا أعرف ما الذي رأيته.. سأشرح لك لاحقًا.. فقط لا تخبر أحدا أنني رأيتك..
قالها بسرعة فلم أفهم ما يعنيه.. فقط أخذت أنظر له في حيرة وهو يأخذ حقيبته ليخرج بسرعة..
ما الذي يحدث هنا بالضبط؟؟
أنا لا أفهم شيئًا!!
* * *
في النهاية سمحوا لي بالخروج من الغرفة وبالعودة إلى منزلي, على أن أعود لعملي في اليوم التالي..
لم يطردوني ولم يشرحوا لي ما رأيته, فقررت أن أنساه وألاّ أتحدث فيه مرة أخرى.. الأصلع أخبرني أنني لو تحدثت مع أي شخص عمّا حدث؛ فلن أعود إلى هناك أبدًا.. أخبرني أنه لا يطيق من هم مثلي ولن يغفر لي لو كررتها!
هكذا عدّت إلى منزلي فلم أجد طعامًا.. جارتي نسيت مرة أخرى وأنا لم أعد أهتم بهذا..
سأنام جائعًا وغدًا ربما أجد بعض الطعام, أو سأطلب من قريبي أن يبتاع لي بعض المربى..
كانت الليلة باردة فجلست على فراشي أسفل الأغطية, لكني كنت عاجزًا عن النوم.. كنت أرى الفتاة الصغيرة التي تغطيها الدماء تبتسم لي ما إن أغلق عيني؛ فقررت أن أظلّ مستيقظًا..
لو كانت أمي موجودة, لكانت قد أعدّت لي بعض الحليب الدافيء ولسمحت لي أن أنام في غرفتها الليلة , لكن أمي لم تعد معي..
أمي تركتني وأنا الآن جائع أشعر بالبرد وأعجز عن النوم..
لأول مرة أتمنى لو أتت جارتي حاملة بعض الطعام الساخن, لتخبرني أنها نسيت فحسب, وأنها لديها من الوقت ما يكفي لتمضيه معي.. لو حدث هذا الآن فسوف أ..
فجأة ارتفعت طرقات على باب شقتي!
لم أعتد أن أتمنى شيئًا ويحدث؛ لذا قمت ذاهلاً من فراشي واتجهت لأفتح الباب بسرعة لدرجة أنني نسيت أن أسأل عن الطارق قبل أن أفتح, لكنها لم تكن جارتي..
كان النحيف الذي يدخّن وكان يحمل صورة للفتاة الشبح أمام وجهي مباشرة, وهو يقول:
لو كانت هذه هي الفتاة التي رأيتها, فهذا يعني أن حياتك في خطر..
!!!
أنا أذكر هذه الليلة جيدًا.. كنت نائمًا على فراشي في غرفتي, حين سمعت صوت الطرقات على نافذة الغرفة, فاستيقظت لأتَّجه إليها..
في البداية لم أرَ أي شيء.. ثم.. ثم..
ثم رأيتها..
امرأة عجوز قبيحة ظهرت فجأة خلف النافذة, ونظرت لي مباشرة وهي تهمس باسم أمي, فصرختُ في رعب لدرجة أنني بللت ملابسي.. اختفت المرأة العجوز, لكنني أخذت أصرخ وأصرخ..
ليلتها استيقظت أمي على صراخي, وحين رأت ملابسي صفعتني لأول مرة في حياتي, فأخذت أبكي دون أن أستطيع التوقف..
لكن أمي لم تكن قاسية.. ليلتها وبعد أن هدأت قليلاً, أعدّت لي كوبًا من الحليب الدافيء وأخذتني لأنام جوارها في غرفتها, فحكيت لها كل شيء..
وحين انتهيت ربتت أمي على رأسي بحنان, وأخبرتني أنني لو رأيت شبحًا مرة أخرى؛ فعليّ أن أغمض عيني وأفكر في شيء أحبّه.. بعدها سأفتح عينيّ لأجده وقد اختفى!
لم أنس هذه الليلة أبدًا, لكني لم أر أشباحًا بعدها..
حتى أمي لم أعد أراها.. فهي كما أخبرني قريبي هناك..
في السماء..
* * *
وأنا أعرف أنني لست ذكيًا, فأنا لا أجيد القراءة والكتابة كقريبي الذي وصفني بـ (المتخلّف), لكني أعرف أن البشر لا يخرجون من الجدران.. هكذا عرفت أنها شبح..
رأيتها تخرج من الجدار فتجمدّت في مكاني, وقد زادت البرودة من حولي أكثر وأكثر, ثم رأيتها تتجه نحوي..
كانت فتاة صغيرة وكانت ترتدي ثوبًا أبيض, لكنه كان ملوّثًا بالدماء.. وجهها وشعرها أيضًا كانا ملوثين بالدماء.. وكانت تبتسم!
تذكرّت ما علمتني أمي إياه, فأغلقت عيني وأخذت أبحث عن شيء أحبّه لأفكر فيه..
أنا أحبّ المربى.. لكن لم يعدّ أحد يحضرها لي منذ رحلت أمي.. أنا أحبّ القطط, لكن قريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنه لن يكون عندي وقت لأقتني قطة.. أنا أحبّ أمي لكنها تركتني و..و..
أنا.. أنا..
أنا خائف!
كانت الفتاة المخيفة تتجه نحوي وهي تشير بإصبعها تجاهي, فأغلقت عيني بقوة والبرودة من حولي تشتد وتشتد, ثم شعرت بها تمرّ من جواري لتتجاوزني, ولتواصل طريقها مبتعدة..
أنا.. أنا..
أنا نجوت!
فتحت عيني ببطء فرأيتها تواصل طريقها إلى تلك الصحراء التي تحيط بنا, لتتجه إلى تلك الشجرة الضخمة وسط الرمال.. وكانت تشير بإصبعها تجاه الشجرة..
فتاة خرجت من الجدار وتتجه إلى الشجرة.. أنا لا أفهم شيئًا!
هكذا اعتدلت وأخذت أنظر لها في حيرة, لتلتفت هي لي ولتقل شيئًا ما لم أسمعه, قبل أن تدخل الشجرة لتغيب في جذعها..
ما رأيته أخافني بشدة, لكني لم أتمكّن من الهرب حينها.. غير مسموح لي بترك مكاني خلال ساعات العمل الرسمية!
لكني لم أضغط على الزر في الجدار كذلك.. لم أجرؤ على الحركة لشدة خوفي..
ثم إن الفتاة لم تخرج من البوابة الخلفية, بل من الجدار والآن اختفت في الشجرة كأنها لم تكن موجودة أصلاً..
أنا أذكر أن هذا كان آخر شيء رأيته..
بعد هذا شعرت بظلام يحيط بي فجأة.. شعرت بأنني عاجز عن الوقوف.. وبأنني أسقط على الأرض و.. و..
ولم أعُد أذكر شيئًا بعدها..
* * *
ثم استيقظت لأجدني داخل المبنى الذي كان من الممنوع عليّ دخوله..
كنت ممددًا على فراش في غرفة خاوية, فقمت من عليه وأنا أشعر بالدوار.. ما الذي حدث لي؟
حاولت الخروج من الغرفة فلم أستطع.. الباب مغلق من الخارج وأنا أريد الخروج لكن.. لكن..
لكن فُتِح الباب فجأة ليدخل ذلك الرجل الأصلع القصير.. لم أكن قد رأيته من قبل منذ أن تسلمت عملي الذي اتقنه هنا, لذا نظرت له في حيرة, ليشير هو لي قائلاً:
اجلس..
فأطعته على الفور, وجلست على طرف الفراش وأنا أنظر له في ترقّب.. أمّا هو فوقف أمامي ليقول:
أوّد أن أعرف منك ما حدث بالضبط..
فأجبته:
تلك الفتاة.. لقد خرجت من الجدار واتجهت نحوي.. الدماء.. كانت مغطاة بالدماء و..
مهلاً.. تقول إنها خرجت من الجدار؟؟
نعم.. لقد كانت شبحا.. خرجت من الجدار واتجهت إلى تلك الشجرة لتختفي فيها و..
فأشار لي مرة أخرى, ليقاطعني:
انتظر هنا..
ثم خرج من الغرفة فلم أتحرك من مكاني, حتى عاد مرة أخرى ومعه رجل آخر ذو ذقن بيضاء, ليشير عليّ محدثًا الرجل ذا الذقن:
يقول إنه رأى شبحا... هل صدقتني الآن؟.. إنه لا يصلح للعمل معنا..
فقال ذو الذقن:
ربما لم تفهم ما يعنيه جيدًا.. لابدّ أن هناك خطأ ما..
ثم التفت ذو الذقن لي, ليقول:
تقول إنك رأيت فتاة صغيرة؟
نعم..
صِفها لي..
هنا حاولتُ أن أتذكر ملامح تلك الفتاة, لأجد أنني عاجز تمامًا عن هذا..
أنا أتقن عملي لكني لا أتذكر ملامح الفتاة أبدًا.. فقط أذكر أنها..
لقد كانت.. كانت تبتسم!
قلتها بتردد, فتبادل الأصلع وذو الذقن نظرة سريعة، قبل أن يقول الأصلع:
إنه يهذي.. أخبرتك أن من في حالته لا يصلحون للعمل و..
لكنه رأى فتاة تغطيها الدماء.. أنت تعرف أن هذا حدث..
وأنت تعرف أن هذا حدث قبل أن يأتي للعمل معنا.. فكيف رآها إذن؟؟
فلم يجبّ ذو الذقن هذه المرة بل بدت عليه الحيرة.. أمّا أنا فشعرت بالخوف.. الأصلع لا يريدني هنا.. مرة أخرى يتحدث أحدهم عن (حالتي) لكن هذه المرة ستكون (حالتي) هذه هي السبب في طردي من العمل الوحيد الذي أحبّه وأتقنه..
تحدّث ذو الذقن أخيرًا, ليقول لي:
أخبرني بصراحة.. هل حاولت الدخول إلى المبنى؟
لا..
هل تحدثت مع أحد العاملين هنا؟
لا..
وأنا لم أكذب!.. النحيل كان يحدّث نفسه, لكني لم أرد عليه قط..
- هل كنت نائمًا ؟.. أعني ربما كنت تحلم..
- لا.. غير مسموح لي بالنوم خلال ساعات العمل الرسمية..
عاد الأصلع وذو الذقن يتبادلان النظرات, قبل أن يخرجا من الغرفة, دون أن يوجِّها لي كلمة إضافية, لأظل مكاني أنتظر في قلق.. أنا لا أريد أن أصبح بلا عمل..
لا أريد أن أعود لمنزلي البارد الخاوي؛ لأعيش فيه بمفردي..
مرّ وقت طويل عليّ وأنا أنتظر في مكاني دون أن يأتي أحد, قبل أن يفتح الباب أخيرًا ليدخل النحيل الذي يدخّن هذه المرة حاملاً حقيبة صغيرة, فقلت له على الفور:
أنا لم أكن أحلم.. صدقني.. لقد رأيت هذه الفتاة التي تغطيها الدماء..
لكن النحيل بدا وكأنه لم يَرني من قبل.. فقط وضع الحقيبة جواري وفتحها ليخرج محقنًا, وهو يقول:
سآخذ عينة دماء منك.. لا تخف..
لكني نظرت للمحقن في يده برعب.. أنا أذكر المحاقن وأعرف ما الذي تفعله.. أمي كان الأطباء يغرسون فيها المحاقن طيلة الوقت, قبل أن تصعد إلى السماء..
والآن أتى دوري لألحق بها!
غرس النحيل المحقن في ذراعي؛ فشعرت بالألم وأغلقت عيني بقوة, حتى انتهى ليخرجه من ذراعي قائلاً:
انتهى الأمر..
ففتحت عينيّ ورأيته يعيد المحقن الممتليء إلى حقيبته, قبل أن يميل عليّ فجأة ليهمس في أذني:
أنا أعرف ما الذي رأيته.. سأشرح لك لاحقًا.. فقط لا تخبر أحدا أنني رأيتك..
قالها بسرعة فلم أفهم ما يعنيه.. فقط أخذت أنظر له في حيرة وهو يأخذ حقيبته ليخرج بسرعة..
ما الذي يحدث هنا بالضبط؟؟
أنا لا أفهم شيئًا!!
* * *
في النهاية سمحوا لي بالخروج من الغرفة وبالعودة إلى منزلي, على أن أعود لعملي في اليوم التالي..
لم يطردوني ولم يشرحوا لي ما رأيته, فقررت أن أنساه وألاّ أتحدث فيه مرة أخرى.. الأصلع أخبرني أنني لو تحدثت مع أي شخص عمّا حدث؛ فلن أعود إلى هناك أبدًا.. أخبرني أنه لا يطيق من هم مثلي ولن يغفر لي لو كررتها!
هكذا عدّت إلى منزلي فلم أجد طعامًا.. جارتي نسيت مرة أخرى وأنا لم أعد أهتم بهذا..
سأنام جائعًا وغدًا ربما أجد بعض الطعام, أو سأطلب من قريبي أن يبتاع لي بعض المربى..
كانت الليلة باردة فجلست على فراشي أسفل الأغطية, لكني كنت عاجزًا عن النوم.. كنت أرى الفتاة الصغيرة التي تغطيها الدماء تبتسم لي ما إن أغلق عيني؛ فقررت أن أظلّ مستيقظًا..
لو كانت أمي موجودة, لكانت قد أعدّت لي بعض الحليب الدافيء ولسمحت لي أن أنام في غرفتها الليلة , لكن أمي لم تعد معي..
أمي تركتني وأنا الآن جائع أشعر بالبرد وأعجز عن النوم..
لأول مرة أتمنى لو أتت جارتي حاملة بعض الطعام الساخن, لتخبرني أنها نسيت فحسب, وأنها لديها من الوقت ما يكفي لتمضيه معي.. لو حدث هذا الآن فسوف أ..
فجأة ارتفعت طرقات على باب شقتي!
لم أعتد أن أتمنى شيئًا ويحدث؛ لذا قمت ذاهلاً من فراشي واتجهت لأفتح الباب بسرعة لدرجة أنني نسيت أن أسأل عن الطارق قبل أن أفتح, لكنها لم تكن جارتي..
كان النحيف الذي يدخّن وكان يحمل صورة للفتاة الشبح أمام وجهي مباشرة, وهو يقول:
لو كانت هذه هي الفتاة التي رأيتها, فهذا يعني أن حياتك في خطر..
!!!
* * *
يتبع
يتبع