أنا أعرف عملي جيدًا وأنفذه بدقة متناهية..
أنا أستيقظ في تمام الخامسة صباحًا.. أغتسل.. أرتدي ملابسي.. أنطلق إلى عملي لأصل في تمام السادسة..
أقف حيث طلبوا مني أن أقف من السادسة صباحًا حتى التاسعة مساءً.. حينها ينتهي عملي لأعود إلى المنزل..
هذا هو عملي!
قريبي الذي توسّط لي ليمنحوني هذا العمل قال لي إنه أشبه بعمل رجال الأمن.. وأنا أحبّ رجال الأمن.. أحبّ الزي الذي يرتدونه وها أنا ذا أرتدي ملابسًا تشبه ملابسهم..
لا.. لم يمنحوني سلاحًا كرجال الأمن, وقريبي أخبرني أنني لن أحتاجه.. أخبرني أنه من هم بـ (حالتي) لا يحملون أسلحة..
لا أعرف ما هي حالتي بالضبط, لكني أذكر أمي وهي تبكي..
كانت تراني فتبكي وتردد:
كيف سأتركك وحيدًا دون أن تجد من يرعاك؟
و لم أفهم حينها لماذا كان عليها أن تتركني.. لم أفهم حتى أتى اليوم الذي حاولت فيه إيقاظها فلم تستيقظ.. حاولت كثيرًا وطويلاً لكنها ظلت راقدة على فراشها نائمة دون أن تردّ عليّ وأنا أنادي عليها باسمها..
بعدها أتى أقاربي ليأخذوها, وأخبرني قريبي الذي منحني هذا العمل, أنها ذهبت إلى هناك..
إلى السماء..
أخبرني أنني سأراها مجددًا حين يحين الوقت.. لكني لا أعرف متى بالتحديد..
لكنِّي سأنتظر.. فأنا أريد أن أرى أمي مرة أخرى.. أريد أن أعرف منها ما الذي قصده أحد أقاربي حين أشار لي, ليقول:
- إنه متخلّف..
ما الذي كان يعنيه بالضبط ؟.. لن أعرف حتى أرى أمي مجددًا!
لكني أحبّ عملي الجديد الذي منحني إياه قريبي.. أحبّ الزي الذي أرتديه وأحبّ أصحاب هذا العمل الذين يبتسمون كل مرة يرونني فيها..
حتى المبنى الذي أقف لأحرسه طيلة اليوم جميل بحق.. مبنى أبيض أنيق يتكون من طابقين، ذو بوابة أمامية عليها رجل أمن يحمل سلاحًا – رغم أن قريبي أخبرني أنه لا حاجة للسلاح هنا! – وبوابة أخرى خلفية أقف أنا عليها, وكل ما عليّ فعله هو الضغط على زر في الجدار, لو رأيت أحدًا يخرج من هذه البوابة التي لم أرها تُفتح ولو لمرة واحدة منذ أن بدأت عملي هنا..
لكني سأنتظر..
في يوم من الأيام سيحاول أحدهم الخروج من هذه البوابة, حينها سأسرع إلى الزر في الجدار لأضغط عليه بكل قوتي..
هذا هو عملي هنا وأنا أعرفه جيدًا وأنفذه بدقة متناهية..
و في أحد الأيام أتى من يقف جواري عند هذه البوابة الخلفية, وعرفت أنه ممن يعملون في هذا المبنى, فقميصه كان يحمل ذات الشعار المرسوم على واجهة البناية..
كان رجلاً نحيلاً يرتدي نظارة ذهبية الإطار, وكان قد أتى إلى هنا ليُدخِّن؛ فالتدخين ممنوع منعًا باتًا في الداخل.. عرض عليّ سيجارة فرفضت على الفور..
أمي – التي هي في السماء الآن – أخبرتني سابقًا أن السجائر مضرّة.. أخبرتني أنها تقتل وأنني يجبّ ألاّ أدخن أبدًا.. وأنا اعتدت أن أطيع أمي مهما كان مكانها..
هكذا وقف هذا النحيل جواري وقد أسند ظهره للجدار ليدخن في هدوء, فتحاشيت النظر إليه, ورآني هو أتحاشاه فابتسم في هدوء, وأنهى سيجارته ليعود من حيث أتى..
فقط لاحظت أنه ترك عقب سيجارته على الأرض, فحملتها باستياء لألقي بها في صندوق القمامة، وأنا لم أكن قد فتحت صندوق القمامة الضخم هذا من قبل, فرأيت ما فيه لأول مرة..
كل تلك الأكياس والأدوات والأقمشة كانت ملوثة بالدماء..
نعم.. أنا أعرف الدماء, فأمي كانت تسعل الكثير من الدماء قبل أن تصعد إلى السماء.. كنت أقضي الليل جوارها وهي تسعل حتى تغيب في النوم مجددًا؛ لأنظف كل شيء منتظرًا أن تستيقظ لتسعل من جديد..
أنا لا أعرف ما الذي يحدث في هذا المبنى, لكن لابدّ أنه مليئ بالمرضى الذين يسعلون الدماء مثل أمي..
نعم.. إنهم يدخنون ويسعلون الدماء.. لكني لن أفعل مثلهم أبدًا..
فقط أتمنى أن يحين وقتي لأصعد إلى السماء أنا أيضًا لأرى أمي..
متى يحين وقتي؟
متى؟؟
أنا أعيش بمفردي منذ أن رحلت أمي..
بعد أن أنهي عملي أعود إلى منزلي سيرًا على الأقدام, فأنا لا أحبّ العودة إلى المنزل.. لا أحبّ أن أعود إلى وحدتي فيه..
حين أصل إليه أجده باردًا خاويًا, وكانت أمي تنتظرني فيه سابقًا, فأجده دافئًا وكنت أشمّ رائحة الطعام الذي أعدّته لي لأشعر بالسعادة..
أمّا الآن فأعود إليه لأجده مظلمًا, ولأجد الطعام الذي أعدّته لي جارتي باردًا على الطاولة.. جارتي كانت صديقة أمي الوحيدة, وهي من تطهو لي الآن.. لكنِّي لا أحب مذاق طعامها ولا آكله إلا مضطرًا..
في بعض الأحيان كنت أعود فلا أجد طعامًا لأنها نسِيت أو انشغلت, حينها كنت أنام جائعًا وأنا أحلم بطعام أمي ومذاقه الطيّب..
وفي بعض الليالي كنت أشعر بالوحدة الشديدة فأبدأ في البكاء.. لكني لا أخبر أحدًا بهذا, فقريبي الذي وصفني بـ (المتخلف) رآني أبكي ذات مرة, فقال إنني أبدو كالفتيات الصغيرات..
أنا أكره قريبي هذا وأعرف أنه يكرهني!
لكني كنت أنام فأستيقظ في تمام الخامسة صباحًا.. أغتسل.. أرتدي ملابسي.. أغادر منزلي البارد الوحيد, لأنطلق إلى عملي حيث أعرف ما عليّ فعله بالتحديد..
مرة أخرى رأيت ذلك النحيل قادمًا تجاهي وسيجارته في يده, يهمّ بإشعالها فبدا عليّ الضيق, وشعر هو بهذا هذه المرة, ليبتسم وليقول:
أتضايقك رائحة السجائر؟
فلم أردّ عليه.. عملي واضح وصريح..
أنا أقف هنا أحرس المكان, ولو خرج أحدهم من البوابة الخلفية, فعليّ أن أضغط على الزر على الجدار..
غير مسموح لي بالتحدث مع أحد.. بمحاولة الدخول للمبنى.. بترك مكاني أثناء ساعات العمل الرسمية..
هكذا لم أردّ عليه, ولم يهتمّ هو بهذا, بل وقف على مسافة منّي ليشعل سيجارته, وليبدأ في التدخين بهدوء كالمرة السابقة..
أنا لا تضايقني رائحة السجائر كما يظنّ, لكني لن أخبره بهذا.. لن أرد عليه حتى لو..
-أنا أعمل في المعمل هنا..
قالها دون أن ينظر لي فلم أرد عليه..
أقضي اليوم بطوله في المعمل كأني سجين فيه.. لهذا أخرج منه أحيانًا لأدخن.. وأنت.. ألا تشعر بالملل هنا؟!
لا.. لا أشعر بالملل.. لكني لن أرد عليه!
أمّا هو فواصل كأنه يحدث نفسه:
تحليل.. فحوصات.. أشعة.. نتائج.. هذا هو عملي الذي أكرره كل يوم منذ أن بدأت العمل هنا.. صدقني.. أنا مثلك لا أعرف ما الذي يدور في الداخل, لكنهم يدفعون جيدًا.. لا تنكر هذا!
يدفعون؟؟
قريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنه بدون مقابل!.. أخبرني أنهم سيسمحون لي بالوقوف وارتداء هذا الزي الجميل لو أديت عملي كما يجب, لكنه لم يخبرني قط أنهم يدفعون!!
أشار النحيل للمبنى وقال:
أتعرف أنهم صمموا هذا المبنى بحيث تكون جدرانه عازلة للصوت.. هكذا لا يعرف أحد منّا ما يدور في الغرفة المجاورة.. لا يعرف أحد منّا من يعمل هنا وما الذي يعمله.. كل هذه التحاليل والفحوصات.. كأننا نعمل في مستشفى سرية هنا!
نعم.. مستشفى!
كنت أعرف أن المبنى مليء بالمرضى الذي يسعلون الدماء.. لهذا رأيت كل هذه الأشياء الملوثة بالدماء في سلة القمامة الضخمة قربي..
لكن لا يهم.. فليكن سجنًا حتى.. أنا هنا لأؤدي عملي فحسب, وقريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنني سأظل فيه, طالما صمتّ ولم أسأل أسئلة لا داع لها..
لكنك لا تعرف شيئًا بالطبع.. لهذا اختاروك.. إنهم عباقرة.. أن يختاروا شخصًا بحالتك هذه ليعمل هنا..
حالتي؟.. مرة أخرى أجد من يذكر (حالتي) دون أن أفهم ما الذي يعنيه بالضبط..
أمّا النحيل فسعل فجأة ليطفيء سيجارته – على الأرض – قبل أن يلوّح لي مودعًا, ليعود إلى الداخل..
شعرت بالغضب هذه المرة حين رأيت عقب سيجارته على الأرض, وقررت أنني لو رأيته مرة أخرى يدخن, فسوف أضغط على الزر على الجدار..
نعم.. سأكذب وأقول إنه خرج من الباب الخلفي..
هكذا حملت عقب السيجارة, واتجهت مرة أخرى إلى سلة القمامة الضخمة, وأنا أشعر ببرودة غريبة تحيط بي فجأة كأننا في الشتاء و.. و..
ومن جدار المبنى خرجت تلك الفتاة التي غطّت الدماء وجهها وشعرها, لتتجه نحوي مباشرة!!
أنا أستيقظ في تمام الخامسة صباحًا.. أغتسل.. أرتدي ملابسي.. أنطلق إلى عملي لأصل في تمام السادسة..
أقف حيث طلبوا مني أن أقف من السادسة صباحًا حتى التاسعة مساءً.. حينها ينتهي عملي لأعود إلى المنزل..
هذا هو عملي!
قريبي الذي توسّط لي ليمنحوني هذا العمل قال لي إنه أشبه بعمل رجال الأمن.. وأنا أحبّ رجال الأمن.. أحبّ الزي الذي يرتدونه وها أنا ذا أرتدي ملابسًا تشبه ملابسهم..
لا.. لم يمنحوني سلاحًا كرجال الأمن, وقريبي أخبرني أنني لن أحتاجه.. أخبرني أنه من هم بـ (حالتي) لا يحملون أسلحة..
لا أعرف ما هي حالتي بالضبط, لكني أذكر أمي وهي تبكي..
كانت تراني فتبكي وتردد:
كيف سأتركك وحيدًا دون أن تجد من يرعاك؟
و لم أفهم حينها لماذا كان عليها أن تتركني.. لم أفهم حتى أتى اليوم الذي حاولت فيه إيقاظها فلم تستيقظ.. حاولت كثيرًا وطويلاً لكنها ظلت راقدة على فراشها نائمة دون أن تردّ عليّ وأنا أنادي عليها باسمها..
بعدها أتى أقاربي ليأخذوها, وأخبرني قريبي الذي منحني هذا العمل, أنها ذهبت إلى هناك..
إلى السماء..
أخبرني أنني سأراها مجددًا حين يحين الوقت.. لكني لا أعرف متى بالتحديد..
لكنِّي سأنتظر.. فأنا أريد أن أرى أمي مرة أخرى.. أريد أن أعرف منها ما الذي قصده أحد أقاربي حين أشار لي, ليقول:
- إنه متخلّف..
ما الذي كان يعنيه بالضبط ؟.. لن أعرف حتى أرى أمي مجددًا!
لكني أحبّ عملي الجديد الذي منحني إياه قريبي.. أحبّ الزي الذي أرتديه وأحبّ أصحاب هذا العمل الذين يبتسمون كل مرة يرونني فيها..
حتى المبنى الذي أقف لأحرسه طيلة اليوم جميل بحق.. مبنى أبيض أنيق يتكون من طابقين، ذو بوابة أمامية عليها رجل أمن يحمل سلاحًا – رغم أن قريبي أخبرني أنه لا حاجة للسلاح هنا! – وبوابة أخرى خلفية أقف أنا عليها, وكل ما عليّ فعله هو الضغط على زر في الجدار, لو رأيت أحدًا يخرج من هذه البوابة التي لم أرها تُفتح ولو لمرة واحدة منذ أن بدأت عملي هنا..
لكني سأنتظر..
في يوم من الأيام سيحاول أحدهم الخروج من هذه البوابة, حينها سأسرع إلى الزر في الجدار لأضغط عليه بكل قوتي..
هذا هو عملي هنا وأنا أعرفه جيدًا وأنفذه بدقة متناهية..
* * *
و في أحد الأيام أتى من يقف جواري عند هذه البوابة الخلفية, وعرفت أنه ممن يعملون في هذا المبنى, فقميصه كان يحمل ذات الشعار المرسوم على واجهة البناية..
كان رجلاً نحيلاً يرتدي نظارة ذهبية الإطار, وكان قد أتى إلى هنا ليُدخِّن؛ فالتدخين ممنوع منعًا باتًا في الداخل.. عرض عليّ سيجارة فرفضت على الفور..
أمي – التي هي في السماء الآن – أخبرتني سابقًا أن السجائر مضرّة.. أخبرتني أنها تقتل وأنني يجبّ ألاّ أدخن أبدًا.. وأنا اعتدت أن أطيع أمي مهما كان مكانها..
هكذا وقف هذا النحيل جواري وقد أسند ظهره للجدار ليدخن في هدوء, فتحاشيت النظر إليه, ورآني هو أتحاشاه فابتسم في هدوء, وأنهى سيجارته ليعود من حيث أتى..
فقط لاحظت أنه ترك عقب سيجارته على الأرض, فحملتها باستياء لألقي بها في صندوق القمامة، وأنا لم أكن قد فتحت صندوق القمامة الضخم هذا من قبل, فرأيت ما فيه لأول مرة..
كل تلك الأكياس والأدوات والأقمشة كانت ملوثة بالدماء..
نعم.. أنا أعرف الدماء, فأمي كانت تسعل الكثير من الدماء قبل أن تصعد إلى السماء.. كنت أقضي الليل جوارها وهي تسعل حتى تغيب في النوم مجددًا؛ لأنظف كل شيء منتظرًا أن تستيقظ لتسعل من جديد..
أنا لا أعرف ما الذي يحدث في هذا المبنى, لكن لابدّ أنه مليئ بالمرضى الذين يسعلون الدماء مثل أمي..
نعم.. إنهم يدخنون ويسعلون الدماء.. لكني لن أفعل مثلهم أبدًا..
فقط أتمنى أن يحين وقتي لأصعد إلى السماء أنا أيضًا لأرى أمي..
متى يحين وقتي؟
متى؟؟
* * *
أنا أعيش بمفردي منذ أن رحلت أمي..
بعد أن أنهي عملي أعود إلى منزلي سيرًا على الأقدام, فأنا لا أحبّ العودة إلى المنزل.. لا أحبّ أن أعود إلى وحدتي فيه..
حين أصل إليه أجده باردًا خاويًا, وكانت أمي تنتظرني فيه سابقًا, فأجده دافئًا وكنت أشمّ رائحة الطعام الذي أعدّته لي لأشعر بالسعادة..
أمّا الآن فأعود إليه لأجده مظلمًا, ولأجد الطعام الذي أعدّته لي جارتي باردًا على الطاولة.. جارتي كانت صديقة أمي الوحيدة, وهي من تطهو لي الآن.. لكنِّي لا أحب مذاق طعامها ولا آكله إلا مضطرًا..
في بعض الأحيان كنت أعود فلا أجد طعامًا لأنها نسِيت أو انشغلت, حينها كنت أنام جائعًا وأنا أحلم بطعام أمي ومذاقه الطيّب..
وفي بعض الليالي كنت أشعر بالوحدة الشديدة فأبدأ في البكاء.. لكني لا أخبر أحدًا بهذا, فقريبي الذي وصفني بـ (المتخلف) رآني أبكي ذات مرة, فقال إنني أبدو كالفتيات الصغيرات..
أنا أكره قريبي هذا وأعرف أنه يكرهني!
لكني كنت أنام فأستيقظ في تمام الخامسة صباحًا.. أغتسل.. أرتدي ملابسي.. أغادر منزلي البارد الوحيد, لأنطلق إلى عملي حيث أعرف ما عليّ فعله بالتحديد..
* * *
مرة أخرى رأيت ذلك النحيل قادمًا تجاهي وسيجارته في يده, يهمّ بإشعالها فبدا عليّ الضيق, وشعر هو بهذا هذه المرة, ليبتسم وليقول:
أتضايقك رائحة السجائر؟
فلم أردّ عليه.. عملي واضح وصريح..
أنا أقف هنا أحرس المكان, ولو خرج أحدهم من البوابة الخلفية, فعليّ أن أضغط على الزر على الجدار..
غير مسموح لي بالتحدث مع أحد.. بمحاولة الدخول للمبنى.. بترك مكاني أثناء ساعات العمل الرسمية..
هكذا لم أردّ عليه, ولم يهتمّ هو بهذا, بل وقف على مسافة منّي ليشعل سيجارته, وليبدأ في التدخين بهدوء كالمرة السابقة..
أنا لا تضايقني رائحة السجائر كما يظنّ, لكني لن أخبره بهذا.. لن أرد عليه حتى لو..
-أنا أعمل في المعمل هنا..
قالها دون أن ينظر لي فلم أرد عليه..
أقضي اليوم بطوله في المعمل كأني سجين فيه.. لهذا أخرج منه أحيانًا لأدخن.. وأنت.. ألا تشعر بالملل هنا؟!
لا.. لا أشعر بالملل.. لكني لن أرد عليه!
أمّا هو فواصل كأنه يحدث نفسه:
تحليل.. فحوصات.. أشعة.. نتائج.. هذا هو عملي الذي أكرره كل يوم منذ أن بدأت العمل هنا.. صدقني.. أنا مثلك لا أعرف ما الذي يدور في الداخل, لكنهم يدفعون جيدًا.. لا تنكر هذا!
يدفعون؟؟
قريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنه بدون مقابل!.. أخبرني أنهم سيسمحون لي بالوقوف وارتداء هذا الزي الجميل لو أديت عملي كما يجب, لكنه لم يخبرني قط أنهم يدفعون!!
أشار النحيل للمبنى وقال:
أتعرف أنهم صمموا هذا المبنى بحيث تكون جدرانه عازلة للصوت.. هكذا لا يعرف أحد منّا ما يدور في الغرفة المجاورة.. لا يعرف أحد منّا من يعمل هنا وما الذي يعمله.. كل هذه التحاليل والفحوصات.. كأننا نعمل في مستشفى سرية هنا!
نعم.. مستشفى!
كنت أعرف أن المبنى مليء بالمرضى الذي يسعلون الدماء.. لهذا رأيت كل هذه الأشياء الملوثة بالدماء في سلة القمامة الضخمة قربي..
لكن لا يهم.. فليكن سجنًا حتى.. أنا هنا لأؤدي عملي فحسب, وقريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنني سأظل فيه, طالما صمتّ ولم أسأل أسئلة لا داع لها..
لكنك لا تعرف شيئًا بالطبع.. لهذا اختاروك.. إنهم عباقرة.. أن يختاروا شخصًا بحالتك هذه ليعمل هنا..
حالتي؟.. مرة أخرى أجد من يذكر (حالتي) دون أن أفهم ما الذي يعنيه بالضبط..
أمّا النحيل فسعل فجأة ليطفيء سيجارته – على الأرض – قبل أن يلوّح لي مودعًا, ليعود إلى الداخل..
شعرت بالغضب هذه المرة حين رأيت عقب سيجارته على الأرض, وقررت أنني لو رأيته مرة أخرى يدخن, فسوف أضغط على الزر على الجدار..
نعم.. سأكذب وأقول إنه خرج من الباب الخلفي..
هكذا حملت عقب السيجارة, واتجهت مرة أخرى إلى سلة القمامة الضخمة, وأنا أشعر ببرودة غريبة تحيط بي فجأة كأننا في الشتاء و.. و..
ومن جدار المبنى خرجت تلك الفتاة التي غطّت الدماء وجهها وشعرها, لتتجه نحوي مباشرة!!
* * *
يتبع
يتبع