لم أدخل مع الأطفال إلى تلك الشجرة هذه المرة..
يومها رأيتهم وهم يبتعدون عني, ليدخلوا جميعًا إلى تلك الشجرة؛ لأعود وحيدًا باردًا في مكاني على الأرض, عاجزًا عن الحركة أو الصراخ..
غير مسموح لي بالصراخ..
وحين تمكنت من الحركة أخيرًا.. وقفت ببطء..
ثم أخذت أعدو مبتعدًا..
أنا لن أعود إلى هنا أبدًا!
لا أريد أن أرتدي زي رجل الأمن مرة أخرى.. لا أريد أن أمارس عملي الذي أتقنه.. سيصفني قريبي بالمتخلف, لكني لن أهتم..
سأعود إلى منزلي البارد الخاوي وسأظل هناك حتى يأتي اليوم الذي أصعد فيه إلى السماء لأكون مع أمي..
حينها سأحكي لها كل شيء, وستُعِدّ هي لي كوبًا من اللبن الدافيء, وستسمح لي بأن أنام جوارها..
نعم.. هذا ما ستفعله أمي..
و أنا لن أعود إلى هنا أبدًا..
* * *
حين عدت إلى منزلي هذه المرة وجدت بعض الطعام البارد الذي تركته لي جارتي, لكني لم أمسّه بل أسرعت إلى غرفتي لأقفز على فراشي – رغم أن أمي أخبرتني أن هذا خطأ – واختبأت أسفل الأغطية وأنا ألهث..
أنا لن أعود إلى هناك أبدًا..
سأظل هنا على فراشي أسفل الأغطية, فلن أرى الأطفال ولن يراني أحد حتى تمر هذه الليلة..
لكني لن أنام أيضًا.. في كل مرة أغلق فيها عيني أرى الفتاة تبتسم, وهي تكشف لي عن صدرها حيث لم يعد هناك قلب, بل تجويف مخيف تنزف منه الدماء..
أنا جائع.. بارد.. وحيد..
أنا خائف!
لكن النهار سيأتي..
ستمر الليلة وستسطع الشمس وسأنام حينها.. أمي أخبرتني أنه حين تكون هناك شمس, لا يكون خوف.. لكن.. لكن..
لكني رأيت أشباح الأطفال في ضوء الشمس عند تلك الشجرة.. رأيتهم ولا أريد أن أراهم ثانية..
أنا أشعر بالتعب.. أشعر بالحزن.. أشعر بالـ..
أشعر بيد تجذب الغطاء عن جسدي!!
وقبل أن أبدأ في الصراخ, ارتفع صوت النحيل يقول:
- إنه أنا.. لن تصدق ما الذي حدث اليوم
-!!
* * *
كان النحيف ولكنه لم يكن يدخن هذه المرة..
كان يجلس أمام فراشي وكنت أحدق أنا فيه.. أصغي لما يقول دون أن أستوعبه تمامًا..
وكان يقول:
- لقد عرفت أخيرًا ما الذي يحدث.. بعد أن تركتك أدركت أنك لن تساعدني, فقررت التصرف بمفردي.. فكّرت طويلاً ثم وجدت أن هذا هو الحل الوحيد الذي أملكه.. يجب أن أعرف.. يجب أن أفهم.. هكذا عدت إلى هناك واقتحمت المكان لأبحث عن أي شيء يمكنني العثور عليه..
ثم إنه أشار إلى كومة من الملفات وضعها على ساقيه, ليردف:
إنها تحمل كل شيء عنهم.. أعني الأطفال بالطبع.. كل شيء من الممكن أن تعرفه عنهم.. تواريخ ميلادهم.. أطوالهم.. أوزانهم.. فصيلة دم كل واحد منهم.. تقارير صحية ونفسية.. تاريخ هؤلاء الأطفال بأكمله موجود في هذه الأوراق والصور والتحاليل..
ونظر لحظة للقمر عبر النافذة, قبل أن يواصل:
- لم يكن العثور على هذه الملفات سهلاً.. صدقني.. إنهم يخفون كل شيء بدقة هناك.. لكنك ستجد ما تبحث عنه لو نظرت جيدًا.. لو فكّرت جيدًا فيما تبحث عنه.. هكذا عثرت أنا على الملفات وهكذا فهمت سر الغموض الذي يحيط بالمكان.. عليك أن تستنتج القليل بنفسك.. لكن الصورة تكتمل في النهاية..
قلت أنا بعد تردد:
غير مسموح الدخول إلى.. هناك..
ألم أقل لك إنهم أجادوا اختيارك.. لكن الأطفال اختارتك كذلك والآن عليك أنت أن تختار..
الفتاة التي رأيتها.. صدرها كان يـ..
أعرف.. السؤال الآن هو ما الذي سنفعله؟.. هل سنتظاهر بأن شيئًا لم يحدث؟.. هل ستقضي أيامك هنا أسفل الأغطية؟.. هل ستتخلى عنهم؟؟
أنا خائف.. أنا لا أريد العودة!
سأظل معك حتى النهاية.. لكن يجب أن نضع حدًا لهذا كله.. يجب أن نساعدهم..
وببطء وقف وعيناه لا تزالان معلقتان بالقمر, ليهمس بشرود:
- إنهم هناك.. عند تلك الشجرة..
* * *
لا أذكر كيف نمت هذه الليلة, لكني أذكر أنني رأيت أمي في أحلامي وأنها كانت تبتسم..
وحين استيقظت كنت أبتسم أنا الآخر دون أعرف لهذا سببًا.. ربما لأني أبله كما يقول قريبي!
كانت الساعة الخامسة والنصف, لكني كنت أعرف أنني سأصل لعملي في ميعاده لو أسرعت قليلاً..
نعم سأعود.. لن أقضي أيامي خائفًا من شيء لم أفعله..
سأعود وسأمارس عملي الذي أجيده بدقة متناهية..
وبعد أن تنتهي ساعات العمل الرسمية لن أعود إلى هنا.. لا لن أفعل..
سأنفذ ما اتفقت عليه مع النحيل ولن أتردد هذه المرة..
إنني أذهب إلى عملي كل يوم وأكون هناك في تمام السادسة, لأظل في مكاني حتى التاسعة مساءً.. كل يوم.. كل يوم..
عملي الذي أحبّه لأنهم يسمحون لي بأن أرتدي زيًا يشبه زي رجال الأمن.. عملي الذي لن يمكنني أن أعود له مجددًا بعد اليوم..
لكني اليوم أشعر بسعادة لم أشعر بمثلها قط..
* * *
وفي السادسة تمامًا كنت أقف في مكاني مرتديًا زيي لآخر مرة.. وكنت أشعر باللهفة..
لكن في الواحدة ظهرًا عرفت أن النحيل لقى مصرعه في حادث!..
سيارة مسرعة ثم.. بوووووف.. صعد إلى السماء.. هكذا وبمنتهى البساطة..
بعدها عرفت أن الحادث كان في الليلة قبل الماضية!!
يتبع