أنا لم أفهم ما الذي يعنيه هذا على الفور..
لم أكن ممن يجيدون (الفهم) من قبل، لكني وفي النهاية أدركت معنى أن يموت النحيل في حادث، قبل أن أراه.. إنه مثلهم..
مثل هؤلاء الأطفال الذي يختفون عند تلك الشجرة..
إنه شبح!
كنت أقف مكاني أمارس عملي الذي أتقنه للمرة الأخيرة، حين استوعبت هذا كله، لأجد النحيل يقف قربي يرمق الشجرة، وهو يردد:
الليلة سنفعلها.. سأكون معك حتى النهاية.. لن أتركك حتى ننهي هذا كله..
لكني لم أجبه.. لم أخشَه كما يحدث لي مع الأطفال، لكني أدركت أنه لا داعي لأن أجيبه فهو يعرف ردي على أية حال..
لقد اتفقنا وأنا لا أحب أن أخلف وعودي.. أمي أخبرتني أن من يخلف وعوده لا يستحق أن يكون رجلاً.. وأخبرتني أنني رجل..
فقط نسيت أن تخبرني أي شيء عن (حالتي هذه)!
والتفت إلى النحيل قبل أن يقول:
أنت تعرف أنه لم يكن حادثًا.. أليس كذلك؟
وحين التفتُّ له كان يقف مع الفتاة التي أخذوا قلبها..
كان يربت على رأسها في حنان..
* * *
انتهى عملي في التاسعة مساءً كما يحدث كل يوم، لكني لم أغادر مكاني ولم أتجه إلى منزلي البارد الوحيد..
هذه المرة وقفت في مكاني أنتظر رحيل كل العاملين في المبنى، حتى لم يعد هناك صوت من حولي.. لكني لم أتحرك بسرعة.. النحيل أخبرني أن أظل حذرًا حتى النهاية..
أخبرني أنهم قد يشعرون بي لو حاولت الدخول.. سألته كيف؟ فأخذ يشرح لي الكثير عن كاميرات المراقبة ونظم الحراسة والتأمين، لكني لم أفهم إلا أن الدخول مباشرة قد يضرني..
هكذا وقفت في مكاني لنصف ساعة كاملة، أرمق تلك الشجرة وأنتظر، حتى سمعت النحيل يقول أخيرًا:
الآن.. هيا بنا..
التفت إليه لأراه يسرع إلى صندوق الكهرباء القريب، فتبعته إلى هناك دون أسأله أين كان ولا من أين أتى.. وهناك أشار هو إلى الصندوق وقال:
يجب أن تفسده.. بهذا ستتوقف كل أنظمة التأمين عن العمل.. فقط خذ الحذر وإلا صعقت..
وأنا أعرف هذه المعلومة جيدًا.. أمي أخبرتني بها وأنا صغير وساعدتني على حفظها بالصفعات، فلم أعد ألعب بالقابس الكهربائي بعدها أبدًا..
- ستحتاج لأي شيء خشبي لتفتح الصندوق بعدها سأخبرك بما عليك فعله..
كنت أشعر بالخوف والتردد، لكني لم أكن أنوي التراجع.. ربما أكون غبيًا لكني أشعر بأن ما يحدث داخل المبنى له علاقة بما حدث للأطفال وللنحيل.. لهذا يجب أن ندخل الليلة لنعرف..
أو لأعرف أنا.. لا أعتقد أن النحيل سوف.. إنه.. لا يهتم!
المهم أنني فعلتها أخيرًا ليسود الظلام من حولي، وليبتسم النحيل في رضا، قائلاً:
الآن يمكنك أن تدخل..
فاتجهت باستسلام إلى المدخل الخلفي الذي اعتدت أن أحرسه، ووقفت أمامه حائرًا منتظرًا إرشادات النحيل، الذي قال:
ألم تسأل نفسك ولو لمرة لماذا طلبوا منك ألا تسمح لأحد بالخروج من هذه البوابة؟؟.. المنطقي ألا تسمح لأحد بالدخول..
ماذا؟!!!
لا تشغل بالك.. الآن ستفهم.. رغمًا عنك ستفهم..
* * *
لم يكن الدخول صعبًا كما اعتقدت..
ولم تكن هذه هي أول مرة أتسلل فيها إلى مكان..
أمي أخبرتني ألا أذكر ما حدث لمخلوق لكنها لم تعد معي.. أخبرتني أنها نادمة وأنها لن تطلب مني أن أكررها أبدًا أبدًا.. لكني كنت أعرف أنها كانت مضطرة..
لقد كنا جائعين!
أيام مرّت علينا دون أن نتذوق لقمة.. كنت صغيرًا ولم أكن أملك إلا الجلوس في صمت، بينما أمي المريضة تنبش منزلنا كل يوم بحثًا عن أي شيء يصلح للمضغ.. قريبي أخبرنا أننا فقراء لكني لم أفهم ما يقصده إلا حين رأيت أمي تبكي بمرارة، قبل أن تطلب مني ذلك الطلب العجيب..
تسلل إلى منزل جارتنا ولا تعد إلا ومعك أي شيء يؤكل..
لم أكن أفهم حينها أن هذا خطأ، لكني كنت أعرف أنه ليس سهلاً.. جارتي تعيش بمفردها ودائمًا ما يمتلئ منزلها برائحة الطعام، لكن الدخول إلى منزلها أمر لا أعرف له طريقًا إلا الباب..
أطرق على الباب.. تفتحه هي.. هذا ما يحدث كل مرة..
لكن في تلك الليلة شرحت لي أمي طريقة أخرى للدخول.. طريقة أخبرتني أنها تعلمتها من أبي الذي لم أره قط.. طريقة أخبرتني أن أنساها وألا أحاول استخدامها أبدًا، لكني الليلة مضطر..
استخدمت هذه الطريقة مع باب جارتي، ففوجئت به يفتح أمامي دون أن تفتحه جارتي، وبرائحة الطعام الشهي تملأ معدتي الخاوية.. تلك الرائحة التي كدت أنساها في منزلي..
ليلتها أسرعت إلى المطبخ لأبحث عن مصدر الرائحة، وأنا أشعر بقلبي يرقص في صدري بصورة لم أشعر بها من قبل، وكنت أحمل حقيبة صغيرة قررت أن أملأها لآخرها كيلا نجوع بعدها أبدًا، لكني لم أكن أرى جيدًا في الظلام..
لهذا اصطدمت بذلك الوعاء الزجاجي.. لهذا تهشم..
ولهذا أمسكت بي جارتي..
حينها بكيت أنا وحكيت لها كل شيء فبكت معي، ثم قامت لتملأ حقيبتي الصغيرة بنفسها، لكنها طلبت مني ألا أعود إلى هنا أبدًا.. وطلبت مني أن أحمل ذات الرسالة إلى أمي..
هكذا عدت إلى أمي بالطعام والرسالة، فلم تذق الطعام بل تركته كله لي..
وبعد أن ماتت أمي تطوَّعت جارتي لتعد لي الطعام كل فترة.. في بعض الأحيان تنسى فأنام جائعًا، وفي بعض الأحيان أنام ورائحة طعامها الشهي تملأ أنفي..
أما الآن.. اليوم.. أنا أتسلل إلى المبنى الذي قضيت طيلة الفترة الماضية في حراسة بوابته الخلفية، ومعي شبح النحيل يرشدني كأنه كان هنا من قبل، ورائحة حارقة تملأ أنفي وتحرق عيني.. فركتهما بقوة لم تخفف من أثر الرائحة، ليقول النحيل:
إنه الفورمالين.. البوابة الخلفية هي أقصر طريق إلى الأسفل.. المفترض أننا سنجد الدرج هنا..
وأشار إلى حيث رأيت الدرج بصعوبة في الظلام، قبل أن يردف:
- في نهاية هذا الدرج سنجد بوابة تقود للطابق الأرضي، حيث يخفون أسرارهم.. هناك سنفهم كل شيء وسنضع حدًا لهذا كله.. اتبعني..
قالها واختفى في ظلام الدرج، فتبعته وأنا أتحسس طريقي، حتى بلغت تلك البوابة.. بحثت عن مقبضها بأصابعي والنحيل يهمس:
أسرع.. أسرع..
هاهو المقبض.. لكن.. إنه موصد!
حاولت مرة وثانية وثالثة فلم يستجب لي الباب.. حاولت معه بالطريقة التي تعلمتها صغيرًا، لكنه ظلّ في مكانه رافضًا محاولتنا للدخول..
هكذا نظرت إلى النحيل في حيرة، لأجده يقول:
لقد احتاطوا للأمر إذن.. لكنهم هناك.. أنا أشعر بهم خلف هذا الباب..
ونظر إليّ بانفعال أضاء عينيه في الظلام، وهو يردف:
- هناك مدخل آخر.. نعم.. هناك مدخل آخر ويجب أن نعثر عليه..
- لكن.. أين؟!
- ألم تفهم بعد.. إنه هناك.. عند تلك الشجرة
- !!
* * *
هذه المرة كنت أشعر بالرعب..
لكن النحيل ظلّ معي طيلة الوقت وإن لم يساعدني على الإطلاق..
وبعد ساعتين كنت قد انتهيت من الحفر أسفل تلك الشجرة، لأشعر بذلك السطح المعدني أخيرًا، وليصيح النحيل بحماس:
- ألم أقل لك إنه هنا؟.. لقد كانوا يرشدوننا إليهم طيلة الوقت.. لهذا كانوا يظهرون ويختفون هنا..
لكني أخذت أتحسس السطح المعدني بحثًا عن فجوة قبل أن أقول:
وكيف سنعبر إلى الداخل؟
ستجد فتحة تهوية هنا أو هناك.. إنه ممر تهوية قديم، قاموا بإخفائه كيلا يقود أحد إلى سرهم.. ابحث جيدًا وستجده..
كان الوقت قد تأخر وكنت أشعر بالبرد والإرهاق، لكني لم أعترض.. الليلة سينتهي هذا كله..
وأنا لن آتي إلى هنا مجددًا ولن أرى الأطفال مرة أخرى أبدًا أبدًا..
بحثت حتى أصابني الملل، لكني عثرت في النهاية على تلك الشبكة المعدنية، فجذبتها بقوة لأكشف عن فجوة كافية لأعبر خلالها إلى داخل الممر.. ومرة أخرى صاح النحيل:
ألم أقل لك؟.. والآن لم يتبقَّ إلا بضع خطوات تخطوها في هذا الممر.. هيا بنا..
وبلا تردد قفز عبر الفتحة، فتبعته بسرعة لأجدني في ذلك الممر المظلم الذي امتلأ بتلك الرائحة الحارقة..
في نهاية الممر يوجد باب يقود إلى مكان مضاء، لكنها أول مرة أشعر بالخوف من الضوء أكثر من الظلام..
هنا لا يوجد سواي أنا والنحيل والرائحة ومن فوقنا تلك الشجرة..
لكن هناك.. خلف ذلك الباب يوجد ضوء.. وعلى هذا الضوء سأرى سر من يعملون في المبنى..
غير مسموح لي بأن أعرف!
يمكنني أن أخرج الآن.. سأخفي الحفرة وأغلق المدخل الخلفي وسأنسى كل شيء..
وغدًا سآتي إلى عملي الذي أتقنه في تمام السادسة وسأظل في مكاني حتى تمام الـ..
- لكنهم لن يتركوك.. ستراهم حتى تجنَّ أو تقتل نفسك..
قالها النحيل فاحتجت لبعض الوقت قبل أن أفهم ما يعنيه.. قبل أن أعود ليأسي..
أمّا النحيل فأشار إلى الباب قائلاً:
سينتهي الأمر حالاً.. كل شيء سينتهي..
نظرت إليه وقلت بعد تردد:
هل ستبقى معي؟
حتى النهاية.. أعدك..
فعدت لأنظر إلى الباب قبل أن أقرر أن أتجه إليه..
أخطو في اتجاهه.. أقترب منه أكثر.. النحيل يتبعني صامتًا هذه المرة.. الرائحة تشتد..
أبلغه أخيرًا..
أمدّ أصابعي لأمسك المقبض البارد.. أفتحه..
ثم أصرخ رعبًا مما أراه في الداخل !!
* * *
يتبع
يتبع