لأنني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه
أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى،
و تعلّقها أكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه...
لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس
محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول
إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!
وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا
جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر
:
" سأبقى هنا بقية عمري "
وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب
الأمور، ثم قال :
" مستحيل ! "
نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة،
واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..إلا أن وليد قال بغضب :
" هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح "
بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت
قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة
من قبل وليد !
قالت خالتي
:
" دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش
الأمر "
قال وليد
:
" رجاء ً يا خالتي أم حسام، إنه أمر مفروغ منه "
قالت خالتي
:
" و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ "
قال وليد
:
" نعم إذا لزم الأمر "
و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !
حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !
يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو
يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !
تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !
و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي
في لحظة كهذه !
حسام قال منفعلا :
" ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ "
رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :
" لا تتدخّل أنت "
قال حسام مستاء :
" كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى
برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها "
تدخّل أبو حسام قائلا :
" ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن "
التفت إليه حسام و قال :
" بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور
، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا
"
وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :
" هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ "
حسام قال حانقا :
" ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث
شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد
"
و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و
الجميع !
قلت بتحد:
" نعم، أريد العيش هنا مع خالتي "
وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار... الأوداج التي تجانب
عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !
عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !
رباه
!
كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي
كالشمس السوداء !
قال :
" و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و
أنت معي "
في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي
الصغرى، حين تقول :
" إذن .. نم معنا ! "
جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير،
تلتها نظرة استحسان !
قال خالتي
:
" تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ "
وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى ... و بعد نقاش قصير،
نظر إلي وليد و قال :
" لهذه الليلة فقط "
معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره
على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه
!
يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟
لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا
المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي ...
أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور...حتى
أثقلت صدرها و رأسها، و نامت و تركتني أخاطب نفسي!
كذلك نام الجميع، و مضى الوقت... و أنا في عجز كلي عن
النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي،
بحثا عن وليد !
كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى
أراه...
لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء (
شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق...
انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري
سيفتح باب للمشادة !
لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !
( نوما هنيئا..يا وليد قلبي ! )
جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي , مخاطبة بها صورة وليد
المحفورة في جفنيّ...
و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما...
~ ~ ~ ~
وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم
غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.
ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟
أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟
مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا
لن أدعك تبتعدين عني...
ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي... الطيور.. يجب أن
تعود إلى أعشاشها...
مهما ابتعدت، و مهما حلّقت...
مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا...
تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء
في مكان آخر... و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا
أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس... و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور
الحديث !
" وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة
عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في
مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! "
التزمت الصمت في انتظار التتمة
" إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها
بحاجة إلى رعاية (أمومية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا "
هزت رأسي اعتراضا مباشرة... فقالت أم حسام :
" لم لا ؟ "
" لا يمكنني تركها هنا "
" و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن
تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ
طفولتها"
قلت مستنكرا
:
" لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته "
استاءت أم حسام و قالت :
" لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن
عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ "
وقفت من شدة الانزعاج من كلامها ... كيف تصفني بالغريب
؟؟
" أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب "
" و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر
مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها
يا وليد "
استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:
" و لا حسام و لا أباه ! "
أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :
" لكنني هنا ! "
" و إن ْ ؟ ... أروى و أمها أيضا هناك "
" لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا
خالة رغد ، يعني أمها "
قلت بنفاذ صبر :
" لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و
ابنتيك شيئا ! "
أم حسا صمتت برهة ثم قالت :
" إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان
سابقا لأوانه "
الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :
" ماذا ... تقصدين ؟ "
أم حسام قالت
:
" كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت
على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! "
كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت
تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة
حين بلغت الباب سمعتها تناديني :
" وليد ! إلى أين ! ؟ "
استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن
أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :
" سآخذها و نغادر فورا "
و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي
و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج
اللقاء الودي بيني و بين أمه
لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه
مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق
:
" ماذا حصل ؟ "
لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة
عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً
التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد
و أروى و الخالة ليندا
" اخبريهن بأننا سنغادر الآن "
و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .
أم حسام قالت
:
" وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ "
أجبت بحنق
:
" راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و
جزيتم خيرا "
حسام خاطب أمّه :
" هل أخبرتِه ؟ "
أجابت
:
" نعم ، و لكن ... "
و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :
" هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ "
اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه...
بدا مترددا، لكنه قال :
" منذ زمن كنت أفكّر في ... "
و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :
" لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت "
الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة ... و المستنكرة
ثم نطق حسام
:
" و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها
بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن ... "
و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي
تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة...
ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة
نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !
كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و
ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد ...
أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت...
...
عادت سارة، و معها أروى و أمها
نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة
قالت :
" رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! "
تحدّثت أروى الآن قائلة :
" إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر
بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها
! "
و استدارت إلى أمها متممة :
" أليس كذلك أمي ؟ "
قالت خالتي ليندا :
" بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا
تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟
"
عند هذا الحد، و ثار البركان...
الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك
رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ،
أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين...
سألت الصغيرة سارة :
" أين هي ؟ "
أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها
قلت :
" أ أستطيع الدخول ؟ "
فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و
نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :
" أ أستطيع الدخول ؟ "
قالت أروى
:
" أجل
... "
و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :
" رغد ... رغد "
حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..
طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء...
الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني،
كما لا يهمكم سردها هنا
وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما
بدا التوتر و القلق...
قلت :
" رغد، هيا بنا ... "
هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر
حدّة و خشونة :
" رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا "
رغد تكلّمت قائلة :
" لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني "
رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :
" رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا
لن أخرج من هنا إلا و أنت معي
"
قالت رغد بتحد ٍ :
" لن أذهب ! "
في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي
..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد
أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها
و أجبرتها على السير معي نحو الباب
...
من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني
أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار
أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد
ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء...إلا أنني سحبتها من
بين أيديهم بقسوة
أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها
زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة...
نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :
" عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت
في غنى عنها "
" من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. "
استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور
لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .
و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من
يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي
...
كنت أنوي إيساعه ضربا، إلا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي
ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في
داخلي بلا هوادة .
وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد
و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى
أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة
:
" ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة "
و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب
الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة ...