وقفتُ عند أسفل عتبات السلّم... مأخوذا بهول ما سمعتُ...
مشلول الإرادة...
اختفتْ رغد بعدما صرختْ في وجهي ( أكرهكَ يا بليد )
إن أذني ّ لم تسمعا... إنما هو قلبي الذي اهتز بعنف بعد
الصدمة...
التفتُ إلى الوراء بجهد فرأيتُ أروى تقف ملتصقة بالجدار
محملقة بي تكاد بنظراتها تثقبُ عيني ّ فيما تعبيرات الذهول طاغية على وجهها
الملوّن...
كانتْ أمسية جميلة و قد استمتعتُ فيها مع سيف و طفله...
ثم سهرتُ مع أروى نشاهد مسرحية فكاهية رائعة... كان كل شيء رائعا قبل قليل...
لماذا يا رغد ؟
لماذا ؟؟
" وليد
"
الحروف خرجتْ متقطّعة من فم أروى المصعوقة بما سمعتْ...
و بالتأكيد تريد الآن أن تسمع من جديد...
" وليد... وليد... ماذا قالتْ رغد ؟؟ "
ركّزتُ نظري في أروى ... و لم أرد...
أروى اقتربتْ منّي خطوة بعد خطوة ببطء ... كأن قدميها قد
ثقلتا فجأة و ما عادتْ بقادرة على رفعهما
و لما صارتْ أمامي أبعدتُ نظري عن عينيها... فقد كانتْ
نظراتها قوية جدا... و مركزة جدا إلا أنها سرعان ما مدّتْ يدها إلي و سألتْ :
" وليد ... أنت َ ... أنت َ ... من... قتل عمّار ؟؟ "
سماع اسمه أجبر عينيّ على العودة فورا إلى عينيها
المذهولتين
" وليد ...؟؟ أنت ...!! "
أجبتُ أخيرا
:
" نعم ... أنا من قتل عمار القذر... ابن عمّك "
أروى رفعتْ يدها بعيدا ثم وضعتْها على فمها و شهقتْ
بقوة.. و تجمّدتْ اللحظة ساعة أو عاما أو حتى قرنا من الزمان...
لم أحس إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي... و بالحرارة
تنبعثُ منه...
و لم استطع تحرير بصري من قيد عينيها...
بدأتْ الآن تهزّ رأسها في عدم تصديق و دهشة ما مثلها
دهشة...
" لا ... لا أصدّق ! وليد !"
و التقطتْ بعض أنفاسها و تابعتْ :
" كل... هذا الوقت... و أنتَ ... تخفي عنّي ؟؟ لا
أصدّق ! "
و مرّة أخرى حرّكتْ يدها نحوي و أمسكتْ بكتفي
" غير صحيح ! وليد أنتَ ... تمزح "
قلتُ بحزم
:
" قتلتُه و دخلتُ السجن... و لستُ نادما... هذه هي
الحقيقة... هل عرفت ِ الآن ؟
"
ابتعدتْ أروى عنّي و هي تهتفُ :
" لا ... لا ... "
ثم توقفتْ فجأة و استدارتْ إليّ و قالتْ :
" لماذا ؟؟ لماذا قتلته ؟ "
قلتُ مباشرة
:
" لأنه يستحق الموت... الحيوان... القذر... الحقير... "
عادتْ تسأل مندهشة مبحوحة الصوت :
" لماذا ؟ "
جوابي كان بضربة سددتُها إلى سياج السلم الخشبي كدتُ
معها أن أحطّمُه...
أروى كررتْ
:
" لماذا ؟ أخبرني "
و لما لم أجبها أقبلتْ نحوي مجددا و أمسكتْ بذراعي ّ
الاثنتين و هتفتْ :
" أخبرني لماذا ؟؟ لماذا ؟؟؟ "
صرخت ُ بانفعال :
" لأنه حيوان... ألا تعرفين معنى حيوان ؟؟ "
أروى تهزُّ رأسها و تقول:
" ماذا تخفي عنّي يا وليد ؟؟ قلْ لي ؟؟ لماذا
أخفيتَ هذا عنّي ؟؟ لماذا لم تخبرني لماذا ؟ "
و بدأتْ دموعها بالانهمار...
شعرتُ بأني أختنق... الهواء من حولي لم يكن كافيا لملء
رئتيّ... أبعدتُ يديها عني و أوليتُها ظهري و سرتُ متجها نحو مدخل المنزل...
نادتني أروى:
" إلى أين تذهب ؟؟ لا تدعني هكذا يا وليد... قل لي
ما الذي تخفيه عنّي ؟؟"
لم أجبها فقد كنتُ من الضيق و الغضب ما يكفي لأن أدمّر
مدينة بكاملها...
" وليد إلى أين ؟ "
صرختُ
:
" دعيني و شأني يا أروى "
و أسرعتُ نحو الباب و غادرتُ المنزل...
الساعة آنذاك كانتْ منتصف الليل... و لم أكن لأغادر
المنزل في مثل هذا الوقت لو أن الضيق لم يصل بي إلى حد الاختناق...
كنتُ أريد أن أهدأ بعيدا...
أعيد عرض الشريط و أركز فيما حصل...
استوعب الحدث و أفكر فيه...
توجهتُ نحو البحر...أرفس رماله و أرجم أمواجه إلى أن
أفرغتُ ما في صدري من ثورة في قلبه... و لو كان يتكلم لصرخ صرخة تصدعتْ لها كواكب
المجرة من فرط الألم...
و كإنسانٍ مجردٍ من أي اعتبارات... على سجيته و فطرته...
أطلقتُ العنان لدموعي... و بكيتُ بألم...
تفقدتُ ساعتي فلم أجدها و تحسستُ جيوبي بحثا عن هاتفي
فلم أعثر سوى على سلسلة مفاتيحي... السلسلة التي أهدتني إياها رغد ليلة العيد...
لا أدري كم من الوقت مضى و لكني لمحتُ أول خيوط الفجر
يتسلل عبر عباءة السماء...
عندما وصلتُ إلى المنزل... وجدتُه يغط في سكون مخيف...
أردتُ أن أتفقد الفتاتين... وجدتُ أروى نائمة في غرفتها
و قد تركتْ الباب مفتوحا و المصابيح مضاءة فاستنتجتُ أنها نامتْ بينما كانت تنتظر
عودتي...
توجهتُ نحو غرفتي و توقفتُ عند الجدار الفاصل بين بابها
و باب غرفة رغد
و استعدتُ ذكرى الليلة الماضية و اشتعل الألم في معدتي...
أديت صلاتي ثم ارتميتُ على سريري و عبثا حاولتُ النوم...
لم أنم و لا لحظة واحدة
و عاصرتُ بزوغ الشمس و مراحل سباحتها في كبد السماء ساعة
ً ساعة و حمدتُ الله أنه كان يوم إجازة و إلا لتغيبتُ عن العمل من شدة التعب...
لم أفعلْ شيئا سوى التفكير و التفكير...
و عند نحو العاشرة و النصف سمعتُ طرقا على الباب...
" تفضّل
"
لقد كانتْ أروى...
و على غير العادة لم نبدأ حديثنا بالتحية...
" هل استيقظتَ ؟ "
سألتني و وجهها يسبح في الحزن...
" بل قولي : هل نمتَ ؟ "
لم تعلق أروى، ثم قالتْ :
" أيمكننا التحدث الآن ؟ "
" تفضلي
"
و بالطبع تعرفون عم سنتحدث...
" أريد أن أعرف... تفاصيل مقتل عمار... و لم أخفيتَ
الحقيقة عني... و ما علاقة كل هذا برغد ؟ "
تنهدتُ ثم قلتُ :
" هل... سيغير ذلك شيئا ؟ "
أروى قالتْ بسرعة :
" بالطبع... سيغيّر الكثير... "
و لا أدري ما قصدتْ بذلك... و لم يعد يهمني ما قد
يحدث.... في نظري الآن... لا شيء يستحق الاهتمام...
" حسنا يا أروى... لقد سبق و أن أخبرتُك بأنني
انتظر الوقت المناسب لأطلعكِ على أمر مهم... و لم يعد هناك معنى للصمت بعد الآن "
" إذن ... اخبرني بكل شيء ... "
تنهّدتُ تنهيدة مريرة... خرجتْ من صدري عجوزا واهنة لم
تجد ما تتكئ عليه... و سرعان ما هوتْ في أعماق الذكريات...
" قبل أكثر من تسع سنوات... قتلتُ عمار... و دخلتُ
السجن... و هناك تعرّفتُ إلى والدك... بمحض الصدفة... و قبل وفاته أوصاني بكِ و
بأمكِ خيرا... و ماتَ و هو لا يعرف أنني... من قتل ابن أخيه أو ربما لا يعرف
حتّى... أن ابن أخيه قد قُتِل
"
كانتْ أروى تصغي إلي باهتمام...
و عندما توقفتُ نظرتْ إلي بتعجب و قالتْ:
" هذا كل شيء ؟ "
قلتُ بضيق باد ٍ :
" نعم
"
هزّتْ رأسها استنكارا و قالتْ:
" لا تخفي عنّي شيئا يا وليد... اخبرني بالحقيقة
كاملة "
" ماذا تريدين أن تعرفي ؟ "
" لماذا قتلتَ عمّار "
التزمتُ الصمت
" لماذا يا وليد ؟ "
أجبتُ :
" فيم يهمّك ذلك ؟ "
" بالتأكيد يهمني أن أعرف "
قلتُ
:
" لم يكن ذلك يهمّك ... سابقا "
صمِت ّ قليلا ثم قلتُ :
" أتذكرين ؟؟ ارتبطت ِ بي و لم تسأليني لِمَ دخلتُ
السجن... و من قتلتُ... و لماذا
.."
أروى قالتْ
:
" لكن... ذلك كان قبل أن أكتشف أن الضحية كان ابن
عمّي "
هيجتني الجملة فهتفتُ منفعلا :
" الضحية ؟؟ تقولين عن ذلك الحقير الضحية ؟؟ "
حملقتْ أروى بي ثم انطلق لسانها مندفعاً :
" هذا ما يثير جنوني... لماذا تنعته بالحقير و
القذر؟ ماذا فعل؟ ماذا حصل؟ ما الذي كان بينكما؟ و لماذا قتلته؟ "
لم أجب...
" وليد أجبني ؟ "
أشحتُ بوجهي بعيدا... لكنها حاصرتني من كل الجوانب
" لماذا لا تريد أن تجيب يا وليد ؟؟ بدايةً... أنا
لا أصدق أنك يمكن أن تقتل رجلاً مهما حصل... فلماذا قتلتَ ابن عمّي ؟ "
قلتُ منفعلا
:
" لا تشيري إليه بـ ( ابن عمّي ) فهذا يثير التقزز
يا أروى "
" وليد
! "
قلت ُ بصبر نافذ :
" اسمعي يا أروى... لا استطيع أن أفصح عن السبب...
لقد قتلتُه و انتهى الأمر... و لستُ نادما... و لن أندم يوما على ذلك... "
ثم استطردت ُ
:
" أرجوك ِ يا أروى... أنا متعب للغاية... هذا يكفي
الآن "
الحيرة تملكتْ أروى ممزوجةً بالفضول الشديد... و أصرتْ
على معرفة المزيد لكنني امتنعتُ عن البوح بالحقيقة...
فجأة سألتْ
:
" هل... تعرف رغدُ ذلك ؟ "
و ربما للانفعال الذي ظهر على وجهي استنبطتْ هي الجواب
دون أن أنطق...
ثم بدا عليها بعض التردد و قالتْ أخيرا :
" و ... هل ... لثروتي علاقة بذلك ؟ "
نظرتُ إليها مستغربا و سألتُ:
" ثروتك؟؟ ماذا تعنين؟ "
قالت
:
" أعني... هل كنتَ تعرف... عن ثروة عمّي قبل زواجنا
؟ "
صُعقتُ من سؤالها... وقفتُ فجأة مذهولا كمن لدغته أفعى...
قلتُ
:
" ما الذي تقولينه؟؟ "
أروى وقفتْ بدورها و أفلتتْ أعصابها منطلقة:
" أنا لا أعرف ما الذي أقوله... لا أعرف كيف
أفكّر... قبل ساعات اكتشفتُ أن خطيبي هو قاتل ابن عمّي... و أنتَ تخفي عني
الحقيقة... و ترفض البوح بشيء... كيف تريدني أن أفكّر يا وليد أنا أكاد أجن ... "
حقيقة لم أرَ أروى بهذه الحالة من قبل...
قلتُ بعصبية
:
" لا علاقة لهذا بزواجنا يا أروى... لا تذهبي
بأفكارك إلى الجحيم "
صرختْ
:
" إذن قل لي الحقيقة "
" أي حقيقة يا أروى بعد ؟؟ "
" لماذا قتلتَ عمار و لماذا أخفيتَ الأمر عنّي ؟؟ و
لماذا لا تريدني أن أعرف السبب ؟
"
وضعتُ يدي على جبيني و ضغطت على صدغي ّ حائلا دون
انفجارهما...
" لماذا يا وليد ؟ "
صرختُ
:
" أرجوك يا أروى... لا تضغطي علي... لا استطيع
إخبارك عن الأسباب... "
احمرّ وجه أروى الأبيض غضبا و قالتْ و هي تهمّ بالمغادرة :
" سأعرفُ الأسباب... من رغد إذن "
و انطلقتْ نحو الباب
أبعدتُ يدي عن رأسي فجأة و تركتُه ينفجر صداعا قاتلا...
و هتفتُ بسرعة :
" أروى انتظري "
لكن أروى كانت قد غادرتْ الغرفة و لالتصاق غرفتي بغرفة
رغد سرعان ما مدّتْ ذراعها و طرقتْ باب رغد و نادتها
أسرعتُ خلفها محاولا منعها
" توقفي يا أروى إيّاكِ "
قلتُ ذلك و أنا أبعدُ يدها عن الباب...
" دعني يا وليد... أريد أن أعرف ما تخفيانه عني... "
جذبتُ أروى بقوة حتى آلمتُها و صرختُ بوجهها :
" قلتُ توقفي يا أروى ألا يكفي ما فعلتِه بالأمس ؟؟
يكفي "
" أنا ؟ ما الذي فعلتُه ؟ "
" ما قلتِه لرغد عن ثروتكِ و عما ننفقه من
ثروتكِ... و أنتِ تعلمين يا أروى أنني احتفظ بسجل لكل المصروفات... و أنّ ما
أعطيها إياه هو من راتبي أنا و مجهودي أنا... "
هنا فُتِح الباب و أطلتْ منه رغد...
أول ما اصطدمتْ نظراتنا تولّد شرر أعشى عينيّ...
هل رأيتموه ؟؟
حملقنا ببعضنا قليلا... و الطيور على رؤوسنا نحن الثلاثة...
أول ما تكلمتْ رغد قالت بحدة:
" نعم ؟ ماذا تريدان ؟ "
و نقلتْ بصرها بيننا... و لم ننطق لا أنا و لا أروى...
قالتْ رغد:
" من طرق بابي ؟ "
هنا أجابتْ أروى:
" أنا
"
سألتْ رغد بغضب:
" ماذا تريدين ؟ "
أروى ترددتْ ثوانٍ لكنها قالت:
" سأسألك سؤالا واحدا "
هنا هتفتُ رادعا بغضب :
" أروى... قلتُ كلا "
التفتتْ إليّ أروى محتجةً :
" و لكن يا وليد "
فصرختُ مباشرة و بصرامة :
" قلتُ كلا ... ألا تسمعين ؟ "
ابتلعتْ أروى سؤالها و غيظها و أشاحتْ بوجهها و انصرفتْ
من فورها...
لم يبقَ إلا أنا و رغد... و بضع بوصات تفصل فيما
بيننا... و شريط البارحة يُعرض في مخيلتنا... عيوننا متعانقة و أنفاسنا مكتومة...
تراجعتْ رغد للخلف و همّتْ بإغلاق الباب ...
" انتظري "
استوقفتها... لم أكن أريدها أن تبتعد قبل أن أرتاح و لو
قليلا...
" ماذا تريد ؟ "
سألتني فقلتُ بلطفٍ و رجاء :
" أن نتحدّث قليلا "
فردتْ بحدة و جفاء :
" لا أريد التحدث معك... دعني و شأني "
و دخلتْ الغرفة و أغلقتْ الباب بهدوء... لكنني شعرتُ به
يصفع على وجهي و أكاد أجزم بأن الدماء تغرق أنفي...
جلستُ في الصالة مستسلما لتلاعب الأفكار برأسي تلاعب
المضرب بكرة التنس... بعد ذلك رغبتُ في بعض الشاي علّه يخفف شيئا من صداع رأسي...
هبطتُ إلى الطابق السفلي و إلى المطبخ حيث وجدتُ أروى و
خالتي تجلسان بوجوم حول المائدة...
حييتُ خالتي و شرعتُ بغلي بعض الماء...
" وليد
"
التفتُ إلى أروى... التي نادتني و رأيتُ في وجهها
تعبيرات الجد و الغضب...
" أريدُ العود إلى المزرعة "
حملقتُ في أروى غير مستوعبٍ لجملتها الأخيرة هذه...
سألتُ :
" ماذا ؟ "
أجابتْ بحزم
:
" أريد العودة إلى المزرعة... و فورا "
التفتُ إلى خالتي فهربتْ بعينيها إلى الأرض... عدتُ إلى
أروى فوجدتُها تنتظر جوابي
قلتُ
:
" ماذا تقولين ؟ "
" ما سمعتَ يا وليد... فهل لا دبّرت أمر عودتنا أنا
و أمي الآن ؟؟ و إذا لم تستطع مرافقتنا فلا تقلق. نستطيع تدبير أمورنا في المطار و
الطائرة "
عدتُ أنظر إلى خالتي فرأيتُها لا تزال محملقة في الأرض...
" خالتي
... "
التفتتْ إلي فسألتُ :
" هل تسمعين ما أسمع ؟ "
الخالة تنهدتْ قليلا ثم قالتْ :
" نعم يا بني. دعنا نعود لأرضنا فقد طال بعدنا و
أضنانا الحنين "
أدركتُ أن الأمر قد تمتْ مناقشتُه و الاتفاق عليه من
قِبلهما مسبقا... عدتُ أكلم أروى:
" ما هذا القرار المفاجئ يا أروى... غير ممكن ...
تعلمين ذلك "
أروى قالت بحدة :
" أرجوك يا وليد... لستُ أناقش معك تأييدك من
عدمه... أنا فقط أعلمك عن قراري و أريد منك شراء التذاكر... "
" أروى
!! "
" و هذا قرار نهائي و لا تحاول ثنيي عنه...رجاء ً
يا وليد احترم رغبتي ..."
و عبثا حاولتُ ... و باءتْ محاولاتي بالفشل... و أصرتْ
أروى و أمها على العودة إلى المزرعة و بأسرع ما يمكن...
تركتُ الماء يغلي و يتبخر و ربما يحرق الإبريق... و
خرجتُ من المنزل... لم يكن لدي هدف و لكنني أرت الابتعاد قبل إثارة شجار جديد...
حاولتُ إعادة تنظيم أفكاري و حلولي فأصابني الإعياء من
كثرة التفكير...
عندما عدتُ وقت زوال الشمس... كانتْ أروى و خالتي قد
حزمتا أغراضهما في الحقائب...
" بالله عليك يا أروى... تعلمين أنه لا يمكنكما
السفر... "
قالت
:
" لماذا ؟ "
قلتُ
:
" تعرفين لماذا... لا يمكن أن... نبقى أنا و رغد
بمفردنا "
و كأن كلامي هذا أشعل الجمر في وجهها... إني لم أرَ أروى
غاضبة بهذا الشكل من ذي قبل...
" من أجل رغد ؟ لقد انتهينا يا وليد... أنا لم يعد
يهمني ما تفعله و ما لا تفعله من أجل رغد... دبر أمورها بعيدا عني... لا علاقة لي
بهذه الفتاة من الآن فصاعدا
"
و تركتني و غادرتْ المكان...
وقفتُ حائرا غير قادر على التصرف... خاطبتني خالتي آنذاك :
" دعنا نذهب يا بني فهذا خيرٌ لنا "
قلتُ معترضا
:
" كيف تقولين ذلك يا خالتي؟؟ تعرفين أن رغد تدرس في
الكلية و لا يمكنني العودة بها إلى المزرعة و لا البقاء معها هنا وحيدين... أرجوكِ
يا خالتي قدري موقفي... أرجوك ... اقنعي أروى بتغيير قرارها المفاجئ هذا "
لكن خالتي هزتْ رأسها سلبا... و قالتْ:
" ابنتي متعبة يا وليد... لقد لقيَتْ منك و من ابنة
عمّك الكثير... رغم كل ما تفعله من أجلك... أنتَ صدمتها بقوة... و صدمتني كذلك...
دعنا نعود إلى مزرعتنا نتنفس الصعداء... يرحمك الله "
لم أجرؤ على إطالة النظر في عينيها أكثر من ذلك... و لم
أجسر على قول شيء... شعرتُ بالخجل من نفسي و أنا أقف حاملا ذنبي الكبير ...أمام كل
ما فعلتْه عائلة نديم لي عبر كل تلك الشهور...
كم أشعر بأنني خذلتهم... و صدمتهم...
لكن...
ألم يكونوا يعرفون بأنني قاتل مجرم خريج سجون؟؟
هل يفرق الأمر فيما لو قتلتُ عمار عما لو قتلتُ غيره ؟؟
هل كان علي أن... أبوح بسري إلى أروى منذ البداية؟؟
كان يوما من أسوأ أيام حياتي... حاولتُ النوم من جديد
بلا جدوى... و حاولتُ الذهاب إلى رغد و لم أجرؤ... و حاولتُ التحدث مع أروى فصدتني...
قبل غروب الشمس، ذهبتُ إلى أحد مكاتب شركة الطيران و
حجزتُ أربعة تذاكر سفر إلى الشمال...
عدتُ بعد صلاة العشاء حاملا معي طعاما جلبتُه من أحد
المطاعم...
كنتُ أشعر بالجوع و التعب و آخر ما أكلته كان بعض
المكسرات ليلة أمس... كما و أن أروى لم تعد أي وجبة هذا اليوم...
" أحضرتُ أقراص البيتزا لنا جميعا... دعونا
نتناولها فلابد أنكما جائعتان مثلي
"
قلتُ ذلك و أنا أضع العلب الأربع على المنضدة في غرفة
المعيشة، حيث كانت أروى و الخالة تجلسان و تشاهدان التلفاز...
الخالة ابتسمتْ ابتسامة سطحية أما أروى فلم تتحرك...
فتحتُ علبتِي و اقتطعتُ قطعة من البيتزا الساخنة و
قضمتُها بشهية...
" لذيذة... تعالي يا أروى خذي حصّتك "
و مددتُ باتجاهها إحدى العلب... أروى لم تتحرك... فقلتُ
مشجعا :
" إنها لذيذة بالفعل "
أتدرون بم ردّتْ ؟
" خذها لابنة عمك... لابد أنها الآن تتضور جوعا و
هي حبيسة غرفتها منذ البارحة
"
فوجئتُ و اغتظتُ من ردّها... و ما كان منّي إلا أن وضعتُ
العلبة على المنضدة مجددا و أعدتُ قطعتي إلى علبتها كذلك...
الجو غدا مشحونا... و حاولتْ خالتي تلطيفه فأقبلتْ نحوي
و أخذتْ إحدى العلب... و وضعتها بينها و بين أروى و بدأتْ بالأكل...
أما أروى فلم تلمسها...
حملتُ العلبة الثالثة و قلتُ و أنا أغادر الغرفة:
" نعم... سآخذها إليها "
و لا أدري بم تحدثتا بعد انصرافي...
حالما طرقتُ باب رغد و تحدثتُ إليها :
" أحضرتُ لك ِ قرص بيتزا... تفضلي "
ردتْ علي
:
" لا أريد منك شيئا..."
امتصصتُ ردها المر رغما عني، و أجبرتُ لساني على الكلام :
" لماذا يا رغد؟ إلى متى ستصومين؟ هل تريدين الموت
جوعا؟ "
و ردّتْ علي
:
" أكرم لي من الأكل من ثروة الغرباء "
استفزني ردها فطرقتُ الباب بانفعال و أنا أقول :
" ما الذي تقولينه يا رغد؟ افتحي الباب و دعينا
نتحدّث "
لكنها صاحتْ:
" دعني و شأني "
فما كان منّي إلا الانسحاب... مكسور الخاطر...
استلقيتُ على أريكة في الصالة العلوية... وسط الظلام...
لا أرى إلا السواد يلون طريقي و عيني و أفكاري...
و مرتْ الساعة بعد الساعة... و الأرق يأكل رأسي... و
الإجهاد يمزق بدني و الجوع يعصر معدتي... و يهيج قرحتي... و لم يغمضْ لي جفن أو
يهدأ لي بال...
بعد سكون طويل سمعتُ صوت أحد الأبواب ينفتح...
لابد أنها رغد... إذ أن أروى و الخالة تنامان في غرفتين
من الناحية الأخرى من المنزل، بعيدتين عن الصالة و عن غرفتينا أنا و رغد...
أصغيتُ السمع جيدا... شعرتُ بحركة ما... فقمتُ و حثثتُ
الخطى نحو غرفة رغد...
رأيتُ الباب مفتوحا و يبدو أنها قد غادرتْ قبل ثوان...
وقفتُ عند الباب منتظرا عودتها... و أنا بالكاد أحملُ
جسدي على رجلي... و استندُ إلى الجدار الفاصل فيما بين غرفتينا ليمنحني بعض الدعم...
كنتُ بحاجة لأن أراها و أكلمها و لو كلمة واحدة... عل ّ
عيناي تأذنان بإسدال جفونهما...