" فيم تحدّقين ؟ "
سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة... التي أغلقها
حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل...
قلت :
" هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من
الأقزام السبعة ! "
تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !
قلت:
" أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته... يستحيل على هذا
الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! "
و أخذت سارة تضحك بشدّة !
لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!
وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء
العليل... شاعرة بسعادة تغمر قلبي... و برغبة هوسية في معانقة الهواء!
أخذت ُ أدندن بمرح... و أمشي حافية على العشب بخفة...
كعصفور على وشك الطيران...
نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت
إليها و وجدتها تراقبني باهتمام...
إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي... و
متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !
" رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ "
قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ
صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها خشنا، فيما تقطب
حاجبيها لتقلّد وليد !
و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا... و تثير عجبي!
إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا
الساعة !
قلت موضحة
:
" إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في
ذلك ؟ "
و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :
" رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي "
و سارة لا تزال تضحك !
قلت :
" و لأني يتيمة... فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي
اعتباره أبي ! "
و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !
قلت و أنا أولي هاربة :
" أوه... خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا
تطاقان ! "
لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا
فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا...
أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة...
يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له
آه لو تعلمون...
كم في البعد من شوق و كم في القرب من لهفة...
كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟
كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟
و كيف سأتحمّل رحيلك... و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟
بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في
الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه...
كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم...
و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة
لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل... بينما أنا أراقب
عن كثب... تحركات وليد !
كان وليد غاية في الأدب و اللباقة... كان قليل الحديث أو
الضحك... مغايرا لحسام المزوح الانفعالي...
و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما
بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !
بإدراك أو بدونه... كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من
لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه... بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و
الهواء يعبث بها ...
" ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ "
قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر... فهي تعرف جيدا ما الذي
يثير اهتمامي في قلب الحديقة !
قلت بتحد
:
" بابا وليد ! "
كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و
كتمت ضحكتها
" اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! "
أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم
قالت :
" مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! "
و فتحت ذراعيها أقصاهما... كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و
شأني ... هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا... فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و
يهتف :
" رغد... تعالي "
تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني...
قال حسام
:
" وليد يرغب في الحديث معك "
عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس
ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة...
نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :
" هيا يا صغيرتي المطيعة ... اذهبي لأبيك "
و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد
في نظراتها و سألتني:
" ما الأمر ؟؟ "
قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :
" لا بد أنه سيغادر الآن... "
نظرت إلي نهلة باستغراب... بالطبع سيغادر... و جميعنا
نعلم أنه سيغادر!... ما الجديد في الأمر...؟؟
قلت :
" لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة... لا أحتمل
فراقه... أريده أن يبقى معي... و لي وحدي... أتفهمين ؟؟ "
في وسط الحديقة... على العشب المبلل برذاذ الماء... و
بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه... و تحت نور باهت منبعث من
القمر المتربع بغرور على عرش السماء... وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي...
لأصف لكم مدى لهفتي إليه... سأحتاج وقتا طويلا... و لكن
الفرصة ضئيلة أمامي... و العد التنازلي قد بدأ...
حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث
بمفردنا... و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه ...؟
نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات
خفيفة لكل ما تصادفه
وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :
" يبدو أن الريح ستشتد... إنه إنذار باقتراب الشتاء ! "
" نعم...
"
" المكان هنا رائع... "
و هو يشير إلى الحديقة من حوله...
" أجل...
"
و نظر إلي و قال :
" و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا... "
هززت رأسي إيجابا...
قال بصوت دافئ حنون :
" هل أنتِ ... مرتاحة ؟ "
قلت بسرعة
:
" بالطبع... "
ابتسم برضا ... ثم قال :
" يسرني سماع ذلك... الحمد لله "
هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب... ثم سمعته يقول :
" ألا... تريدين... العودة إلى المزرعة ؟ "
رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي...
وليد قال بصوت خافت :
" لا تقلقي... فأنا لن أجبرك على الذهاب معي... "
ثم أضاف
:
" أريد راحتك و سعادتك يا رغد... و سأنفذ ما ترغبين
به أنت ِ مهما كان... "
قلت موضحة
:
" أنا مرتاحة هنا بين أهلي... "
و كأن الجملة جرحته ... فتكلّم بألم :
" أنا أيضا أهلك يا رغد... "
تداركت مصححة
:
" نعم يا وليد و لكن ... و لكن ... "
و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة ...
أتممت
:
" ولكنني... سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك... لن
يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها... و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة ..."
نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :
" تعنين أروى ...؟ "
فلم أجب، فقال :
" إنها تحبك و كذلك الخالة... و هما تبعثان إليك
بالتحيات "
قلت :
" سلّمهما الله... أنا لا أنكر جميلهما و العجوز
علي... و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت... لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و
معدومة... و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال... "
و هنا توتر وليد و قال باستنكار :
" لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ "
قلت مصرة
:
" هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا... أنا
في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين... و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب
غير خالتي "
و ربما أثرت جملتي به كثيرا... فهو قد لاذ بالصمت لبعض
الوقت... ثم نطق أخيرا:
" على كل... لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة
بأمور مزعجة... "
ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:
" المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية... "
ابتسمت ممتنة...
قال :
" حسنا... يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت
أكثر... "
تسارعت ضربات قلبي أكثر... لم أكن أريده أن يرحل... ليته
يبقى معنا ليلة واحدة...أرجوك لا تذهب يا وليد...
قال :
" أتأمرين بأي شيء ؟ "
ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !
قلت :
" شكرا لك "
كرر سؤاله
:
" ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي
شيء؟؟ "
" كلا...
"
" لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي... أرجوك رغد... "
ابتسمت و قلت
:
" شكرا لك... "
وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت
تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !
كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت
هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !
و للعجب... وليد قدّم هاتفه إلي ّ !
" ابقي هذا معك... اتصلي بي في المزرعة متى احتجت
لأي شيء..."
نظرت إليه باندهاش فقال :
" هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك
كلما لزم الأمر دون حرج"
بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة ...
" و ... لكن ... !! "
صدر التلكين منّي فقال وليد :
" لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا... يمكنني الاستغناء
عنه الآن ... خذيه "
و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة
يدي بتمعن !
قال :
" لا تنسي... اتصلي بي في أي وقت... "
" حسنا... شكرا لك "
وليد ابتسم بارتياح... ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :
" سأنصرف الآن و لكن... "
و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود
قوله... تكلمت أنا مشجعة :
" لكن ماذا وليد ؟؟ "
أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء
القمر و المصابيح الليلية الباهتة...
وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم
إلى العشب... و قال:
" ارتدي عباءتك حينما يكون حسام أو أبوه حاضرين "
ذهلت... و كاد قلبي يتوقف... و حملقت في وليد باندهاش ...
وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :
" و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما... "
الدماء تفجرت في وجهي ... طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في
حرج شديد... توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و
وشاحي الطويل... في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي
اليمنى ...
وليد حاول تلطيف الموقف فقال مداعبا :
" و لكن افعلي ما يحلو لك ِ في غيابنا "
ثم قال مغيرا المسار و خاتما اللقاء :
" حسنا صغيرتي... أتركك في رعاية الله ... "