تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :
" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "
نطقتْ رغد أخيرا :
" وليد "
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "
قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
" الحمد لله "
كررتُ بامتنان :
" الحمدُ لله... الحمدُ لله "
و عقّبتْ الخالة :
" الحمد لله "
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :
" كم ستظلّ هذه ؟ "
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :
" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"
و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
" و الجامعة ؟ "
قلتُ :
" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
" و السفر ؟؟ "
فأجابتْ الخالة :
" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
" هل سأستطيع المشي؟ "
قلتُ بسرعة:
" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "
فقالتْ متشكّكة :
" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "
أجبتُ مؤكداً :
" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
" أنت أدرى "
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....
قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...
في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...
"و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "
سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...
أجبتُ :
" عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "
سألني سيف :
" و ماذا عن زوجتك ؟ "
تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :
" آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "
و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...
قلتُ :
" ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "
بعد صمت ٍ قصير سألني :
" كيف وقعتْ ؟ "
أجبتُ :
" لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "
و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :
" لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "
تنهدتُ و واصلتُ :
" أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"
قال سيف مباشرة:
" لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "
تنهدتُ مجددا و قلتُ :
" الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني...
اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "
وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير...
سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...
" أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "
و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد...
سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...
بعد ذلك سألني :
" هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "
فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :
" كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "
و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!
و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...
قال سيف:
" لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "
ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...
بعدها قال :
" بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "
الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.
نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :
" ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "
ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :
" إلى أين ستذهب ؟ "
أجبتُ بلطف :
" إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "
و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :
" هل ستتركني وحدي ؟ "
تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :
" لا ... ستبقى خالتي معك "
و إذا برغد تهتف :
" أخرجني من هنا "
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :
" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "
نطقتْ رغد أخيرا :
" وليد "
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "
قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
" الحمد لله "
كررتُ بامتنان :
" الحمدُ لله... الحمدُ لله "
و عقّبتْ الخالة :
" الحمد لله "
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :
" كم ستظلّ هذه ؟ "
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :
" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"
و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
" و الجامعة ؟ "
قلتُ :
" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
" و السفر ؟؟ "
فأجابتْ الخالة :
" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
" هل سأستطيع المشي؟ "
قلتُ بسرعة:
" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "
فقالتْ متشكّكة :
" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "
أجبتُ مؤكداً :
" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
" أنت أدرى "
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....
قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...
في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...
"و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "
سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...
أجبتُ :
" عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "
سألني سيف :
" و ماذا عن زوجتك ؟ "
تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :
" آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "
و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...
قلتُ :
" ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "
بعد صمت ٍ قصير سألني :
" كيف وقعتْ ؟ "
أجبتُ :
" لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "
و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :
" لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "
تنهدتُ و واصلتُ :
" أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"
قال سيف مباشرة:
" لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "
تنهدتُ مجددا و قلتُ :
" الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني...
اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "
وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير...
سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...
" أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "
و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد...
سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...
بعد ذلك سألني :
" هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "
فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :
" كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "
و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!
و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...
قال سيف:
" لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "
ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...
بعدها قال :
" بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "
الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.
نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :
" ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "
ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :
" إلى أين ستذهب ؟ "
أجبتُ بلطف :
" إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "
و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :
" هل ستتركني وحدي ؟ "
تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :
" لا ... ستبقى خالتي معك "
و إذا برغد تهتف :
" أخرجني من هنا "