انتقلت الكيمياء مع المسلمين من طور البدايات المترجمة على يد خالد بن يزيد إلى طور الإنجازات العينية والاكتشافات الواضحة والإسهامات الإيجابية، وتبلور علم الكيمياء على أيديهم فيما بعد، وكثرت الاكتشافات والتي كان من أهمها ما يلي:
كانت جميع الأدوية المعروفة قبلهم من الأعشاب الطبية، فأدخل الرازي لأول مرة استعمال أملاح المعادن كالزئبق والمغنيسيوم والحديد والزنك في الدواء والعلاج، وصنع منها المراهم والسيوف والبرشام والمروخ، وكان الرازي يجرب هذه الأدوية على الحيوانات وخاصة القرود قريبة الشبه بجسم الإنسان، كذلك كان ابن سينا أول من أوصى بتغليف حبوب الدواء بأملاح الذهب أو الفضة، وذلك في حالة إذا كان الدواء مر الطعم، أو إذا كان المطلوب عدم ذوبانه في المعدة بل في الأمعاء.
المسلمون أول من صنع الصابون من الصودا، وصنعوا منه الملون والمعطر والسائل والصلب، والكلمة الأوربية Savon أصلها عربي وهو صابون، وتذكر بعض المراجع أنهم أول من صنع الورق. وقد توصل جابر بن حيان إلى صنع أنواع من الورق يقاوم الحريق ويستعمل في تغليف المصاحف والكتب القيمة، كما ابتكر قماشا يقاوم الماء، وتوصل عباس بن فرناس إلى تقليد البرق في القبة السماوية من اشتعال الماغنيسيوم؛ ففتح الطريق أمام التصوير الليلي، كما توصل إلى تقليد الرعد فيها باستعمال البارود، والمسلمون أول من استعمل البارود كقوة دافعة في المدافع (6).
كذلك برعوا في صناعة الزجاج وطوروا منه أنواعا على درجة من النقاوة والجودة، وقد ابتكر جابر بن حيان طريقة إضافة ثاني أكسيد المنجنيز إلى الزجاج لإزالة اللون الأخضر والأزرق الذي يظهر في الزجاج العادي الرخيص، ويعتبر عباس بن فرناس أول من صنع الزجاج البلوري (الكريستال!) بإضافة بعض أملاح المعادن عليه كالرصاص والذهب والفضة لإضفاء البريق عليه.
كذلك ابتكر المسلمون المينا التي تتكون من مسحوق الزجاج الذي يخلط ببعض الأكاسيد المعدنية ثم يُذاب المخلوط في مادة زيتية حتى يتحول إلى سائل بالتسخين، ويرسم به رسومات بارزة على الزجاج ذات بريق وشفافية يرسمونها على القناديل وزجاج المساجد، وقد انتقل هذا الفن من الأندلس إلى أوروبا وانتشر في الكنائس وقصور الأمراء، كذلك ابتكر المسلمون الكثير من الأصباغ.
وقد اخترع المسلمون عددا كبيرا من المواد الكيميائية التي ما زالت تحمل الاسم العربي، ومازالت دعامة علم الكيمياء، فاخترعوا (الكحول) من التخمير، واستخرجوا الزيوت الطيارة بالتقطير، واكتشفوا الصودا، واستخرجوا السكر من عصير الفاكهة بوساطة عقدها علي النار، ولا يزال اسمه Succar، واستخرج ا الفلزات من المركبات الكيميائية، وصنعوا السبائك من معادن مختلفة.
وتعتبر صناعة الصلب العربي إحدى معجزات العلم العربي، فكانت السيوف العربية مضرب الأمثال في متانة معدنها وصفائها، وألَّفوا في ذلك عدة كتب منها: رسالة الكندي المتوفى سنة (866 م) بعنوان: "فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تثلم ولا تكل"، وقد أصدر قسم هندسة المواد في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة سنة 1984م نشرة أن علماءها توصلوا إلى سرّ صناعة الفولاذ الدمشقي الذي صنع منه العرب سيوفهم التي كانت مضرب الأمثال في التاريخ بحدة شفرتها ونعومة سطحها ومتانة معدنها، واكتشفوا أنها كانت تصنع من الصلب المخلوط بذرات كبريتيد الحديد الذي يتم إنتاجه بتعريض المعادن لدرجة حرارة منخفضة، بينما كانت المشكلة عند من سبقهم من العلماء والباحثين الذين أجروا دراساتهم على الصلب العربي أنهم كانوا يفرضون قدرا كبيرا من الحرارة أكثر من اللازم (عملية الحدادة).
وقد عرف المسلمون أن النار تنطفيء بانعدام الهواء، واكتشفوا الحامض والقلوي والفرق بينهما، ومازالت كلمة Alkali أصلها العربي القلوي، ومن أعظم إنجازات المسلمين اكتشاف الأحماض مثل: النيتريك والكلوريدريك، اكتشفهما الرازي سنة 932م، وكذلك الأحماض العضوية مثل الخليك والليمونيك والطرطريك والنمليك، وقد حضروا (الماء الملكي) الذي يذيب الذهب من نسبة معينة من حامض النيتريك (الزاج) وحامض الكلوريدريك (روح الملك) بنسبة 1: 3.
ورغم أن الكثير من كيميائِيِّ المسلمين قد صرفوا جهدهم ووقتهم في محاولة تحويل المعادن الرخيصة كالنحاس والرصاص إلى ذهب وفضة دون نتيجة، إلا أن هذه الجهود لم تذهب سدى؛ فقد توصلوا عن طريقها إلي الكثير من الاكتشافات والاختراعات التي طورت علم الكيمياء، كما أصبح المسلمون سادة صناعة الذهب والفضة في عصرهم، فبرعوا في صناعة السبائك والعملات الذهبية والفضية بنسبة دقيقة كانت مضرب الأمثال.
كما أنهم وضعوا القواعد لاكتشاف هذه النسب واكتشاف غش المعادن النفيسة كلها، وقد قام أحد علماء الكيمياء المعاصرين في أوروبا هو الدكتور (فلندربتري) بتحليل نقود عربية ذهبية قديمة من مصادر مختلفة، فوجد أن نسبة السبيكة واحدة فيها جميعا، ثم وزن العملات الثلاثة وهي بنفس القيمة فلم يجد فارقا في الوزن أكثر من جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام بين العملة ومثيلتها، ويقول في بحثه الذي نشره: "إن هذه دقة في الصنعة تفوق كل تصور".
كذلك برع المسلمون في علم دباغة الجلود وتحضيرها، واستنبطوا أنواعا من الجلود تختلف من اللين والنعومة بحيث تصلح كملابس إلى الأنواع الصلبة التي تصلح أغلفة للسيوف والخناجر وأغلفة للمخطوطات، كما تفننوا في النقش بالألوان الثابتة على الجلد وفي الكتابة البارزة عليه، ومازالت هذه الصناعة في إسبانيا مزدهرة منذ عصور الإسلام.
أما صناعة الأصباغ والألوان والأحبار فيدلنا على تفوقهم فيها ما نراه اليوم من ألوان زاهية في القصور الإسلامية، مثل الحمراء وقصور إستانبول، وما نراه في أغلفة المصاحف الملونة، وقد ابتكروا مدادا (حبرا) يضيء في الليل من المواد الفسفورية، وآخر يبرق في الضوء بلون الذهب من المرقشيشا الذهبية وهو (كبريتيد النحاس) ليستخدم بدل الذهب الغالي في كتابه المصاحف والمخطوطات القيمة.
كما صنعوا أنواعا من الطلاء الذي يمنع الحديد من الصدأ، واخترع جابر بن حيان مواد كيميائية تنقع فيها الملابس أو أوراق الكتابة فتمنع عنها البلل، ومواد أخرى تنقع فيها الملابس أو الورق فتصبح غير قابلة للاحتراق.
أخذ المسلمون عن الإغريق وأرشميدس فكرة الوزن النوعي للمواد، ولكنهم توسعوا فيها إلى أقصى حد، وطوروها وصنعوا لها موازين خاصة متطورة، فابتكر الرازي ميزانا دقيقا سماه: "الميزان الطبيعي" ووصفه في كتابه (محنة الذهب والفضة)، كما ابتكر الخازن ميزانا متطورا يمكنه وزن الأجسام في الماء والهواء على السواء.
وقد كان اهتمام المسلمين بالوزن النوعي لاكتشاف نقاء المعادن، وإذا كانت مختلفة أو مغشوشة وخاصة المعادن النفيسة، ولكنهم توسعوا بعد ذلك في هذا الميدان فأصبحوا يصنعون الجداول للوزن النوعي لكل شيء في الحياة ابتداء من الذهب والفضة والزئبق والياقوت والزمرد والأزورد والعقيق إلى الحديد والصلب والحجارة، كما شملت أبحاثهم في السوائل كل شيء ابتداء من الأحماض والماء إلى الحليب بجميع أنواعه وزيوت الطعام، وبهذا كانوا يعرفون نسب تركيب كل مادة من عناصرها المختلفة.
وقد جاء في كتاب "عيون المسائل" لعبد القادر الطبري جداول للوزن النوعي لكثير من المواد المعروفة في عصور الإسلام، كذلك قام البيروني والخازن بعمل جداول المواد، فمن ذلك على سبيل المثال: أن الوزن النوعي للذهب الخالص حسب جداول البيروني 26 ر 19 وحسب الخازن 25 ر 19 وحسب الأرقام الحديثة 26 ر 19 وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على دقة المسلمين في تجاربهم.
ومن أغرب التجارب التي أجراها عباس بن فرناس: حساب الوزن النوعي لجسم الإنسان ومقارنته بالوزن النوعي للطيور وخاصة الصقور، وكان مقصده من ذلك أن يعرف حجم الجناحين اللذين يصنعهما لحمل جسمه والطيران في الهواء.
وجدير بالذكر أن هذه الطريقة التي ابتكرها عباس بن فرناس (المتوفى سنة 884 م) هي التي تتبع اليوم في تربية أجسام الرياضيين وإعدادهم للمسابقات العالمية، وفي المعاهد الرياضية الكبرى موازين تقوم على نفس الفكرة، أي وزن الجسم في الهواء ثم في الماء، فإذا وجدوا أن نسبة الشحم إلى العضلات في الجسم أكبر من اللازم نصحوه بعمل ريجيم شديد أو يحرم من الدخول لبطولة الرياضية، وهذا قليل من كثير من فضل وإنجازات المسلمين في الكيمياء (7).
الوزن النوعي للمواد الصلبة والسائلة:
توسع المسلمون في الصناعات الكيميائية:
المسلمون أول من استعمل الكيمياء في صناعة الدواء