[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
"سليم علي".. الموت عشقًا للطيور!
علماؤنا دائماً من النابغين.. يحصلون على أعلى الدرجات، ويحصدون المراكز الأولـى طوال حياتهم. أما اليوم.. فنحن أمام عالم لا ينتمي لهذا النوع من العلماء.. وجه أسمر مرسوم عليه بسمة ساخرة، لم يعرف التفوق يوماً في دراسته، ولم يكمل تعليمه الجامعي، يبغض الجبر واللوغاريتمات، ويحصل على الوظائف بصعوبة بالغة.
يوجد في حياته قصتان للحب: واحدة منهما كانت سبباً في شهرته العالمية، وجعلته دائماً محلقاً ببصره في السماء، ألا وهي قصة حبه للطير.. عالمنا هو د. سليم علي.. واحد من أعظم علماء القرن العشرين في علم الطيور الملقب بـ "رجل الطير الهندي".
هكـذا كانت البداية
دخل طفل في العاشرة من عمره على سكرتير جمعية التاريخ الطبيعي ببومباي B.N.H.S وفى يده عصفور دوري صغير Sparrowبرقعة صفراء على رقبته.. يسأل عن نوع هذا العصفور.
هذا الطفل كان "سليم علي"، وكان د. ملرد Millard هو سكرتير جمعية (BNHS) Bombay natural history society الإنجليزي الجنسية، والذي لفت نظره حرص الفتى الصغير على معرفة نوع الطائر الذي اصطاده في رحلة مع خاله. بعد الإجابة على سؤاله، اصطحبه في جولة بالجمعية، وأطلعه على المجموعة الفريدة التي تضمها من الطيور.. بهر الفتى الصغير، وكان لهذا الموقف أثره في اكتشاف حبه الفطري للطيور، وليكتب اسمه عالماً مرموقاً في علم الطيرOrnithology .
ولد د. سليم معز الدين عبد الله علي في 12 من نوفمبر في عام 1896، كانت أسرته عائلة ثرية مترابطة، وكان سليم معز أصغر إخوته العشرة.. إلا أنه تيتم في صغره وتربى على يد خاله عمر الدين تايبجي الذي كان يهوى الصيد ورحلاته.
حينما أتم سليم العاشرة، عرفه خاله على بندقية الصيد التي اصطاد بها سليم هذا العصفور، والذي لم يكن خاله على دراية بنوعه فأشار عليه أن يذهب به إلى جمعية التاريخ الطبيعي.
تنقل سليم بصعوبة في مراحل التعليم المختلفة.. التحق بجامعة St. Xavier ولكنه لم يكمل تعليمه بها وتركها هارباً من فروع الرياضة الثقيلة على نفسه.
إلى التجارة
ترك سليم تعليمه الرسمي وسافر إلى "بورما" في عام 1919 لمساعدة أخيه في أعمال التعدين، ولكنه بدلا من أن يصب وقته كله في خدمة عمله، أخذ يبحث عن طيوره في غابات بورما الرائعة؛ فقضى معظم وقته في مراقبة الطيور والحياة البرية. وكما كان متوقعاً فإن العمل الذي جاء من أجله سليم لم يكتب له النجاح.. واضطر إلى العودة إلى بومباي بالديون التي أثقلته، بصحبة زوجته تهمينا Tehmina رفيقة السنين الست الماضية.
عاد سليم إلى بومباي، وحاول أن يحصل على وظيفة كعالم للطير إلا أن عدم حصوله على درجات علمية حالت دون ذلك، ولكنه استطاع بعد فترة من الوقت في عام 1926 أن يعمل كمرشد لأنواع الطير لزوار قسم التاريخ الطبيعي، والذي كان قد افتتح حديثاً في متحف "أمير ويلز" في مومبايMumbai .
وقد أدرك سليم علي خطأه بالابتعاد عن التعليم الجامعي والحصول على درجاته. وكان هذا هو سر ندائه الدائم للشباب بالاهتمام بالدرجات العلمية المرموقة لتحقيق أحلامهم وأهدافهم بنجاح.
حاول د. سليم علي في أثناء عمله كمرشد أن يحصل على شهادة البكالوريوس، لكن لم يكن الأمر متاحاً في ذلك الوقت.. فحصل على برنامج مكثف في علم الحيوان لمدة عام، وحرص فيه على الاستفادة الكاملة من الأسس العلمية لعلم الحيوان.
وبعد عامين من عمله، قرر أن يتوجه إلى ألمانيا؛ حيث تدرب هناك على يد واحد من أكبر علماء الطيور هناك، والذي كان له أكبر الأثر في إعطاء د. سليم فرصة حقيقية للتعلم. وحينما عاد بعد 15 شهراً، وجد أن منصبه في المتحف قد فقد لوجود مشاكل اقتصادية في الحكومة.. حاول الاتجاه من جديد إلى التجارة، لكن الأمر لم يرق له، فقرر مصيراً هو وزوجته، اعترفا فيه سويا أن سليم عاش للطيور.
القرار المصيري
في عام 1930 عرض د. سليم على جمعية BNHS أن يقوم بدراسات ميدانية على أماكن كثيرة لم تكتشف بعد، ولم يطلب سليم أكثر من ثمن التنقلات والمعيشة في الغابات.. لاقت هذه الفكرة قبولاً عند مسئولي المقاطعات الملكية، وبدأ حياته كرحالة. كانت الأموال غير كافية على الإطلاق؛ فاعتمد على بعض أموال زوجته وبعض من أمواله القليلة.. قد تبدو هذه الفترة لأي شاب في مقتبل حياته فترة قاسية لا يراها مرضية لطموحه، ولكنها كانت لسليم وزوجته أحلى سنين العمر.
عشرون عاما قضاها يدرس فيها كل شبر في بلاده من قريب أو من بعيد، حتى أصبح من نوادر العلماء الذين يعرفون كل شبر في بلادهم. ولم يهتم د. سليم بنوع الطائر فقط، بل ببيئته، وتاريخه، وظروف معيشته وتوزيعه الجغرافي.. كان وصفه مميزاً؛ حيث كان يقول: "بسفري إلى المناطق النائية، أستطيع أن أدرس كيف تعيش وتتصرف الطيور في بيئتها الطبيعية، وليس في المعمل تحت الميكروسكوب".
هذه العشرون عاماً لم تكن مليئة بالإنجازات فقط، ولكن أيضا بالأحزان؛ فقد توفيت زوجته "تهمينا" في عام 1939 من جراء جراحة صغيرة.. بقى بعدها فترة وحدة وحزن قضاها عند أخته في بومباي.. لم تكن تهمينا زوجة عادية لسليم.. بل كانت وراءها قصة.
وراء كل رجل عظيم امرأة
"لقد أنهيت دراستي لكنني لم أَنهِ بعد اكتشافي لشخصية زوجتي، لقد كانت السبب الرئيسي وراء اختيار مستقبلي كعالم للطير".. كان هذا هو تعليق سليم يوماً على رفيقة عمره ورحلاته.
انحدرت تهمينا من عائلة ثرية، ونالت تعليمها في مدارس إنجلترا العريقة، لكنها مع ذلك كانت تتمتع بقلب الفتاة الريفية البسيطة. أحبت الشعر والقراءة واللغة الأردية، وولعت بالطير مع سليم. كانت محررة كتاباته، ومساعده المخلص في مراقبة الطير. وقد حاولت أن تجعل من هذه الحياة القاسية حياة مريحة وهادئة قدر المستطاع.. وقفت بجانبه حينما اتهمه آخرون بالجنون، وقالت له يوما: "لا تلتحق بأي عمل، لو أنك لا تستطيع ذلك فلا تفعل". ولم يفعل سليم. ومن الطريف أن بعض الطيور مسماة على اسمها مثل طائر Dinopium tehmini.
الإنجازات
بعد فترة من العزوف عن العمل، عاود سليم دراسته للطير، وربما كان لموت زوجته دفعة له للانغماس فيه وإكمال مشوار رحلاته.. وفى عام 1960 أصبح الشاب- الذي رُفض من قبل بسبب نقص مؤهلاته العلمية- يشرف على العديد من رسائل الدكتوراة، ويصنع من علم الطير علماً مرموقاً يسعى الكثير لدراسته، بعدما كان لا يتعدى تسلية للرجل الإنجليزي.
زيادة على تقاريره العديدة، نشر د. سليم علي "كتاب الطير الهندي "Book of Indian birds في عام 1941، والذي يعتبر دليلاً في علم الطير، ويستطيع أي إنسان عادي أن يعرف من خلاله كيف يتعرف على الطير، ويلاحظه، ويعرف كيف تعيش الطيور في بيئتها، وتهاجر وتتزواج... إلخ. ولقد أهدى "نهرو" هذا الكتاب إلى ابنته التي علقت عليه قائلة: "لقد فتح الكتاب عيني على عالم جديد".
كتب 10 مجلدات عن طيور الهند وباكستان مشاركة مع عالم شاب أمريكي اسمه "S.Dillor"، وقد أعاد د. سليم اكتشاف الكثير من الطيور مثل "البايا" Finn Baya والذي لم يره أحد منذ مائة عام. وله عدة مؤلفات عن طيور بعض المناطق بعينها. وكتب أيضا "طيور التلال الهندية" وسيرة ذاتية له.
كان يقضي وقتاً طويلاً في دراسة الطائر الواحد دون كلل أو ملل.. ويذكر أنه درس طائر "الحباكweaverbird قرابة أربعة أشهر، والذي ساقه القدر ليقف على شجرة بجانب شباكه، ولم يكن يعرف الكثير عنه قبل ذلك.
بعد استقلال الهند عن إنجلترا، أصبح د. سليم علي أول هندي يعمل سكرتيراً للجمعيةBNMS ، وجعل منها مكاناً مميزاً، وأصبحت قبلة لعلماء العالم حتى يومنا هذا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
توسعت الجمعية في أبحاثها لتشمل علوم الطير والحياة البرية، النبات والحيوان، بعدما عانت سنوات طويلة من قلة التمويل؛ حيث كتب د. سليم إلى رئيس الوزراء "نهرو" يحثه فيها على تقديم الدعم المادي الكافي لازدهار هذه الجمعية، الذي استجاب بدوره لنداء د. سليم.
الميداليات
حصل على عدة جوائز من أهمها جائزةPadma Vibhushan من الحكومة الهندية، وجائزة Paul getty الدولية في عام 1976 والتي قدرت بـ 50 ألف دولار جعلها كلها في شكل منح وجوائز تمنحها الجمعية للطلبة المحتاجين. كما حصل أيضا على جائزة Golden ark من الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة والميدالية الذهبية من الاتحاد الإنجليزي لعلم الطير، والتي نادرا ما يحصل عليها غير الإنجليزي. وفى عام1985 عين نائبا في البرلمان، وحصل على ثلاث دكتوراة شرفية.
"سقوط العصفور" الساخر
كان د. سليم علي في عيون تلاميذه أبًا لكل من عرفه، ذا علاقة حميمة بأبنائه، وكان الرجل العجوز الذي تلجأ إليه دائماً.. بعيونه اللامعة وشكله القريب من العصفور. مع هذا كله، عرف عنه صرامته الشديدة في تأديبه.. عصبي المزاج، يهتم بالتفاصيل لدرجة الوسوسة، ولا يجرؤ أحد أن يدخن أو يغط في نومه أثناء رحلاته معه.
خفة ظله لم تمنع من روحه الساخرة.. كان يبعث برسائل إلى تلامذته الرحالة دون إبطاء ويعلق على كل صغيرة وكبيرة، بداية من المادة العلمية إلى دقة اللغة الإنجليزية.
أحب الأدب والآيس كريم.. وهوى كتابة الخطابات؛ حيث كان ينفق مبالغ كبيرة على الطوابع ليكون على اتصال بأصدقائه من الطلبة والعلماء أو حتى فقراء القرى الذين قابلهم في رحلاته.
يومه شديد الروتين، يستيقظ في الخامسة صباحا، يمشي في جولة خفيفة، يعمل بعض الوقت، ثم يذهب إلى الجمعية في تمام العاشرة إلا الربع.. لا يسهر بعد العاشرة مساء؛ حيث كان يقول عن نفسه: "مثل الطيور، أحب العمل في الصباح".. كانت روحه مليئة بالحيوية حتى في كبر سنه، وكانت آخر رحلاته إلى جبال الهمالايا للبحث عن السمان الجبلي Quail الذي لم يلمحه أحد منذ قرن.
ولكن المرض داهمه فجأة وأصيب بسرطان البروستاتة.. وكانت آخر أمنياته إنشاء معهد لعلم الطير في بومباي؛ حيث تحامل على نفسه وذهب لمقابلة رئيس الوزراء "راجيف غاندي" الذي وعده بتحقيق ذلك قبل وفاته بشهرين.
سقط العصفور صريع المرض؛ فلم يجد بُدًّا من إكمال سيرته الذاتية قبل وفاته في يوليو 1987، والتي اختار لها اسم "سقوط العصفور" Fall of a sparrow
"سليم علي".. الموت عشقًا للطيور!
علماؤنا دائماً من النابغين.. يحصلون على أعلى الدرجات، ويحصدون المراكز الأولـى طوال حياتهم. أما اليوم.. فنحن أمام عالم لا ينتمي لهذا النوع من العلماء.. وجه أسمر مرسوم عليه بسمة ساخرة، لم يعرف التفوق يوماً في دراسته، ولم يكمل تعليمه الجامعي، يبغض الجبر واللوغاريتمات، ويحصل على الوظائف بصعوبة بالغة.
يوجد في حياته قصتان للحب: واحدة منهما كانت سبباً في شهرته العالمية، وجعلته دائماً محلقاً ببصره في السماء، ألا وهي قصة حبه للطير.. عالمنا هو د. سليم علي.. واحد من أعظم علماء القرن العشرين في علم الطيور الملقب بـ "رجل الطير الهندي".
هكـذا كانت البداية
دخل طفل في العاشرة من عمره على سكرتير جمعية التاريخ الطبيعي ببومباي B.N.H.S وفى يده عصفور دوري صغير Sparrowبرقعة صفراء على رقبته.. يسأل عن نوع هذا العصفور.
هذا الطفل كان "سليم علي"، وكان د. ملرد Millard هو سكرتير جمعية (BNHS) Bombay natural history society الإنجليزي الجنسية، والذي لفت نظره حرص الفتى الصغير على معرفة نوع الطائر الذي اصطاده في رحلة مع خاله. بعد الإجابة على سؤاله، اصطحبه في جولة بالجمعية، وأطلعه على المجموعة الفريدة التي تضمها من الطيور.. بهر الفتى الصغير، وكان لهذا الموقف أثره في اكتشاف حبه الفطري للطيور، وليكتب اسمه عالماً مرموقاً في علم الطيرOrnithology .
ولد د. سليم معز الدين عبد الله علي في 12 من نوفمبر في عام 1896، كانت أسرته عائلة ثرية مترابطة، وكان سليم معز أصغر إخوته العشرة.. إلا أنه تيتم في صغره وتربى على يد خاله عمر الدين تايبجي الذي كان يهوى الصيد ورحلاته.
حينما أتم سليم العاشرة، عرفه خاله على بندقية الصيد التي اصطاد بها سليم هذا العصفور، والذي لم يكن خاله على دراية بنوعه فأشار عليه أن يذهب به إلى جمعية التاريخ الطبيعي.
تنقل سليم بصعوبة في مراحل التعليم المختلفة.. التحق بجامعة St. Xavier ولكنه لم يكمل تعليمه بها وتركها هارباً من فروع الرياضة الثقيلة على نفسه.
إلى التجارة
ترك سليم تعليمه الرسمي وسافر إلى "بورما" في عام 1919 لمساعدة أخيه في أعمال التعدين، ولكنه بدلا من أن يصب وقته كله في خدمة عمله، أخذ يبحث عن طيوره في غابات بورما الرائعة؛ فقضى معظم وقته في مراقبة الطيور والحياة البرية. وكما كان متوقعاً فإن العمل الذي جاء من أجله سليم لم يكتب له النجاح.. واضطر إلى العودة إلى بومباي بالديون التي أثقلته، بصحبة زوجته تهمينا Tehmina رفيقة السنين الست الماضية.
عاد سليم إلى بومباي، وحاول أن يحصل على وظيفة كعالم للطير إلا أن عدم حصوله على درجات علمية حالت دون ذلك، ولكنه استطاع بعد فترة من الوقت في عام 1926 أن يعمل كمرشد لأنواع الطير لزوار قسم التاريخ الطبيعي، والذي كان قد افتتح حديثاً في متحف "أمير ويلز" في مومبايMumbai .
وقد أدرك سليم علي خطأه بالابتعاد عن التعليم الجامعي والحصول على درجاته. وكان هذا هو سر ندائه الدائم للشباب بالاهتمام بالدرجات العلمية المرموقة لتحقيق أحلامهم وأهدافهم بنجاح.
حاول د. سليم علي في أثناء عمله كمرشد أن يحصل على شهادة البكالوريوس، لكن لم يكن الأمر متاحاً في ذلك الوقت.. فحصل على برنامج مكثف في علم الحيوان لمدة عام، وحرص فيه على الاستفادة الكاملة من الأسس العلمية لعلم الحيوان.
وبعد عامين من عمله، قرر أن يتوجه إلى ألمانيا؛ حيث تدرب هناك على يد واحد من أكبر علماء الطيور هناك، والذي كان له أكبر الأثر في إعطاء د. سليم فرصة حقيقية للتعلم. وحينما عاد بعد 15 شهراً، وجد أن منصبه في المتحف قد فقد لوجود مشاكل اقتصادية في الحكومة.. حاول الاتجاه من جديد إلى التجارة، لكن الأمر لم يرق له، فقرر مصيراً هو وزوجته، اعترفا فيه سويا أن سليم عاش للطيور.
القرار المصيري
في عام 1930 عرض د. سليم على جمعية BNHS أن يقوم بدراسات ميدانية على أماكن كثيرة لم تكتشف بعد، ولم يطلب سليم أكثر من ثمن التنقلات والمعيشة في الغابات.. لاقت هذه الفكرة قبولاً عند مسئولي المقاطعات الملكية، وبدأ حياته كرحالة. كانت الأموال غير كافية على الإطلاق؛ فاعتمد على بعض أموال زوجته وبعض من أمواله القليلة.. قد تبدو هذه الفترة لأي شاب في مقتبل حياته فترة قاسية لا يراها مرضية لطموحه، ولكنها كانت لسليم وزوجته أحلى سنين العمر.
عشرون عاما قضاها يدرس فيها كل شبر في بلاده من قريب أو من بعيد، حتى أصبح من نوادر العلماء الذين يعرفون كل شبر في بلادهم. ولم يهتم د. سليم بنوع الطائر فقط، بل ببيئته، وتاريخه، وظروف معيشته وتوزيعه الجغرافي.. كان وصفه مميزاً؛ حيث كان يقول: "بسفري إلى المناطق النائية، أستطيع أن أدرس كيف تعيش وتتصرف الطيور في بيئتها الطبيعية، وليس في المعمل تحت الميكروسكوب".
هذه العشرون عاماً لم تكن مليئة بالإنجازات فقط، ولكن أيضا بالأحزان؛ فقد توفيت زوجته "تهمينا" في عام 1939 من جراء جراحة صغيرة.. بقى بعدها فترة وحدة وحزن قضاها عند أخته في بومباي.. لم تكن تهمينا زوجة عادية لسليم.. بل كانت وراءها قصة.
وراء كل رجل عظيم امرأة
"لقد أنهيت دراستي لكنني لم أَنهِ بعد اكتشافي لشخصية زوجتي، لقد كانت السبب الرئيسي وراء اختيار مستقبلي كعالم للطير".. كان هذا هو تعليق سليم يوماً على رفيقة عمره ورحلاته.
انحدرت تهمينا من عائلة ثرية، ونالت تعليمها في مدارس إنجلترا العريقة، لكنها مع ذلك كانت تتمتع بقلب الفتاة الريفية البسيطة. أحبت الشعر والقراءة واللغة الأردية، وولعت بالطير مع سليم. كانت محررة كتاباته، ومساعده المخلص في مراقبة الطير. وقد حاولت أن تجعل من هذه الحياة القاسية حياة مريحة وهادئة قدر المستطاع.. وقفت بجانبه حينما اتهمه آخرون بالجنون، وقالت له يوما: "لا تلتحق بأي عمل، لو أنك لا تستطيع ذلك فلا تفعل". ولم يفعل سليم. ومن الطريف أن بعض الطيور مسماة على اسمها مثل طائر Dinopium tehmini.
الإنجازات
بعد فترة من العزوف عن العمل، عاود سليم دراسته للطير، وربما كان لموت زوجته دفعة له للانغماس فيه وإكمال مشوار رحلاته.. وفى عام 1960 أصبح الشاب- الذي رُفض من قبل بسبب نقص مؤهلاته العلمية- يشرف على العديد من رسائل الدكتوراة، ويصنع من علم الطير علماً مرموقاً يسعى الكثير لدراسته، بعدما كان لا يتعدى تسلية للرجل الإنجليزي.
زيادة على تقاريره العديدة، نشر د. سليم علي "كتاب الطير الهندي "Book of Indian birds في عام 1941، والذي يعتبر دليلاً في علم الطير، ويستطيع أي إنسان عادي أن يعرف من خلاله كيف يتعرف على الطير، ويلاحظه، ويعرف كيف تعيش الطيور في بيئتها، وتهاجر وتتزواج... إلخ. ولقد أهدى "نهرو" هذا الكتاب إلى ابنته التي علقت عليه قائلة: "لقد فتح الكتاب عيني على عالم جديد".
كتب 10 مجلدات عن طيور الهند وباكستان مشاركة مع عالم شاب أمريكي اسمه "S.Dillor"، وقد أعاد د. سليم اكتشاف الكثير من الطيور مثل "البايا" Finn Baya والذي لم يره أحد منذ مائة عام. وله عدة مؤلفات عن طيور بعض المناطق بعينها. وكتب أيضا "طيور التلال الهندية" وسيرة ذاتية له.
كان يقضي وقتاً طويلاً في دراسة الطائر الواحد دون كلل أو ملل.. ويذكر أنه درس طائر "الحباكweaverbird قرابة أربعة أشهر، والذي ساقه القدر ليقف على شجرة بجانب شباكه، ولم يكن يعرف الكثير عنه قبل ذلك.
بعد استقلال الهند عن إنجلترا، أصبح د. سليم علي أول هندي يعمل سكرتيراً للجمعيةBNMS ، وجعل منها مكاناً مميزاً، وأصبحت قبلة لعلماء العالم حتى يومنا هذا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
توسعت الجمعية في أبحاثها لتشمل علوم الطير والحياة البرية، النبات والحيوان، بعدما عانت سنوات طويلة من قلة التمويل؛ حيث كتب د. سليم إلى رئيس الوزراء "نهرو" يحثه فيها على تقديم الدعم المادي الكافي لازدهار هذه الجمعية، الذي استجاب بدوره لنداء د. سليم.
الميداليات
حصل على عدة جوائز من أهمها جائزةPadma Vibhushan من الحكومة الهندية، وجائزة Paul getty الدولية في عام 1976 والتي قدرت بـ 50 ألف دولار جعلها كلها في شكل منح وجوائز تمنحها الجمعية للطلبة المحتاجين. كما حصل أيضا على جائزة Golden ark من الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة والميدالية الذهبية من الاتحاد الإنجليزي لعلم الطير، والتي نادرا ما يحصل عليها غير الإنجليزي. وفى عام1985 عين نائبا في البرلمان، وحصل على ثلاث دكتوراة شرفية.
"سقوط العصفور" الساخر
كان د. سليم علي في عيون تلاميذه أبًا لكل من عرفه، ذا علاقة حميمة بأبنائه، وكان الرجل العجوز الذي تلجأ إليه دائماً.. بعيونه اللامعة وشكله القريب من العصفور. مع هذا كله، عرف عنه صرامته الشديدة في تأديبه.. عصبي المزاج، يهتم بالتفاصيل لدرجة الوسوسة، ولا يجرؤ أحد أن يدخن أو يغط في نومه أثناء رحلاته معه.
خفة ظله لم تمنع من روحه الساخرة.. كان يبعث برسائل إلى تلامذته الرحالة دون إبطاء ويعلق على كل صغيرة وكبيرة، بداية من المادة العلمية إلى دقة اللغة الإنجليزية.
أحب الأدب والآيس كريم.. وهوى كتابة الخطابات؛ حيث كان ينفق مبالغ كبيرة على الطوابع ليكون على اتصال بأصدقائه من الطلبة والعلماء أو حتى فقراء القرى الذين قابلهم في رحلاته.
يومه شديد الروتين، يستيقظ في الخامسة صباحا، يمشي في جولة خفيفة، يعمل بعض الوقت، ثم يذهب إلى الجمعية في تمام العاشرة إلا الربع.. لا يسهر بعد العاشرة مساء؛ حيث كان يقول عن نفسه: "مثل الطيور، أحب العمل في الصباح".. كانت روحه مليئة بالحيوية حتى في كبر سنه، وكانت آخر رحلاته إلى جبال الهمالايا للبحث عن السمان الجبلي Quail الذي لم يلمحه أحد منذ قرن.
ولكن المرض داهمه فجأة وأصيب بسرطان البروستاتة.. وكانت آخر أمنياته إنشاء معهد لعلم الطير في بومباي؛ حيث تحامل على نفسه وذهب لمقابلة رئيس الوزراء "راجيف غاندي" الذي وعده بتحقيق ذلك قبل وفاته بشهرين.
سقط العصفور صريع المرض؛ فلم يجد بُدًّا من إكمال سيرته الذاتية قبل وفاته في يوليو 1987، والتي اختار لها اسم "سقوط العصفور" Fall of a sparrow