كتب: كريم رمضان
لثلاث عقود مضت ارتبطت حرب أكتوبر المجيدة في أذهان المصريين وبخاصة الشباب بالضربة الجوية الأولى وبالدور الذي لعبه الرئيس السابق حسني مبارك فيها، وطوال هذة السنوات لم يتح الإعلام الحكومي الفرصة لأحد لتعديل هذا المفهوم أو لإلقاء الضوء على دور مئات الآلوف من المقاتلين الذين شاركوا في حرب أكتوبر.

فما حقيقة الضربة الجوية بالضبط وما هو الدور الحقيقي الذي لعبه الرئيس السابق فيها؟

للحقيقة وللتاريخ توجهنا بهذة الأسئلة إلى اللواء طيار أركان حرب المتقاعد محمد ذكي عكاشة وهو أحد الطيارين القلائل الذين شاركوا في الحروب المصرية كافة منذ حرب اليمن وحتى حرب أكتوبر، كما أنه أحد الباحثين في التاريخ العسكري وله عدة كتب في تأريخ الحروب العربية الإسرائيلية خاصة.

بداية يقول اللواء محمد عكاشة أنه شعر بالصدمة حينما سأله أحد الشباب في ميدان التحرير عن حقيقة ما إذا كان مبارك بالفعل قد استقل طائرته وقاد القوات الجوية في حرب أكتوبر أو أنه كان صاحب أول قنبلة تلقى على إسرائيل!، مضيفا أن جيل الشباب وقع ضحية وسائل إعلام ومناهج تعليم خبيثة.

ويتابع بقوله أن حسني مبارك نفسه لا يستطيع ان يقول ان الضربة الجوية الأولى بدأت في السادس من أكتوبر فقد بذل الجنود والقادة العرق والدماء على مدى سنوات حتى تتحقق بهذا الشكل. فلا يمكن فهم الضربة الجوية الأولى دون إلقاء النظر على الهزيمة الفادحة التي تعرضت لها مصر في يونيو 1967 وهي الهزيمة التي خرجت القوات الجوية منها شبه منتهية حيث تم تدمير نحو 90 بالمائة من الطائرات المصرية ، لكن من حكمة الله تعالى ان عدد الشهداء من الطيارين لم يتجاوز 24 طيارا استشهدوا جميعا في الجو بعد قتال مرير في محاولات لإفشال العدوان الإسرائيلي في بطولات فردية منقطعة النظير لكن حجم الهزيمة لم يتح الفرصة لإبراز حجم هذة البطولات.

أحد هؤلاء كان هو الشهيد طيار فتحي سليم الذي خرج بتشكيله المقاتل في اليوم الثاني للعدوان فوق منطقة شرم الشيخ وتمكن من اسقاط طائرتين “نور أطلس” محملتين بنحو 120 جندي من جنود المظلات الإسرائيلي واشتبك مع تشكيل الحماية المعادي واسقط منهم طائرة، لكنه استشهد اثناء هبوطه بعد ان ارتطم بإحدى الحفر الناتجة عن القصف.

اذكر ذلك لأوكد على ان الطيران الذي اشير اليه بأصبع الإتهام في الهزيمة لم يكن مسئولا عنها، على العكس فقد ظُلم ظُلما بينا خاصة بعد الهزيمة وهو ما شكل ضغطا نفسيا رهيبا على الطيار المصري المقاتل الذي شعر بالإهانة البالغة لأن الطيار الإسرائيلي ليس أفضل منه في شئ .

وكيف تغلبتم على اثر هذة الهزيمة الساحقة؟

بعد هزيمة يونيو تخلصنا من اثار الهزيمة وتماسكنا بأسرع ما يمكن وبدأنا في مرحلة شاقة في غياب تام للدفاع الجوي، ولمدة ثلاثة أشهر وقع العبء على القوات الجوية لحماية سماء مصر ومطاراتها فكنا نقوم بعمل مظلات جوية لمدة 14 ساعة يوميا، وهو ما أدى لإرهاق وإجهاد كبير جدا للطيارين وعدم وجود وقت للتدريب لرفع الكفاءة فضلا عن تأثير هذا التحليق المتواصل على الطائرات ، مما دفع بالقيادة إلى الإكتفاء بتكثيف طياري ما يعرف بالحالة الأولى حيث يتم ربط الطيار داخل الطائرة في وضع الاستعداد على الممر للإنطلاق فورا في حالة الخطر.

وكان أول ظهور للقوات الجوية بعد الهزيمة يومي 14 و15 يوليو 1967 حين صدرت لنا الأوامر بضرب مواقع إسرائيلية في شرق القناة ، وكان لهذا الظهور اثر عظيم في قواتنا البرية التي كانت تظن ان قواتها الجوية قد انتهت.

بعد ذلك بدأت القوات الجوية الإسرائيلية في القيام بطلعات استطلاع على الجبهة المصرية، وكان من المطلوب وقتها ان نقوم نحن ايضا باستطلاع الضفة الشرقية لمعرفة اماكن تمركز العدو في الوقت الذي لم نكن نمتلك فيه اي طائرات استطلاع، وهنا ظهرت عبقرية المقاتل المصري حيث ابتكرنا اساليب مدهشة للإستطلاع ، أحد هذة الطرق كان ان تقوم طائرة هليكوبتر بالطيران على ارتفاع منخفض للغاية للهروب من مدفعيات العدو ومن باب الطائرة المفتوح يتدلى جندي من قسم التصوير ويقوم بتصوير المواقع يدويا بينما يمسك به زملائه من الداخل حتى لا يسقط!

لكن هذة الطريقة كانت برغم براعتها غير مجدية في استطلاع المواقع العميقة بسبب عدم قدرة الهليكوبتر على التحليق في عمق العدو ، وهنا ابتكر الجندي المصري وسيلة اخرى بحيث يتم رسم مسار ملاحي لإحدى الطائرات المقاتلة وكانت من طراز سوخوي ويقوم الطيار بحمل مسجل صوتي يدون فيه صوتيا ما يراه على المسار المرسوم له وبعد العودة يتم تفريغ هذا التسجيل وبمقارنة المسار والاحداثيات مع سرعة الطائرة المعروفة يمكن رسم صورة لما هو موجود بالفعل على الجبهة الاخرى.

وهل استمرت جهودكم في خانة الدفاع فقط؟

لا، ففي ديسمبر 68 ورغبة منا في كبح جماح العدو وسيطرته الجوية قمنا بكمين جوي بسيط عن طريق الدفع بطائرتين كطعم لسحب الطائرات الإسرائيلية إلى حيث تكمن اربعة طائرات اخرى على ارتفاع منخفض للغاية لتجنب الكشف الراداري . وتم تنفيذ هذا الكمين بقيادة اللواء ممدوح طليبة بشكل مبهر واسقطنا يومها اربع طائرات إسرائيلية دفعة واحدة وعادت طائراتنا كلها سالمة. وشكلت هذة العملية فرحة عارمة بين الطيارين وثقة بالنفس لا توصف.

وفي هذة المرحلة بدأنا في تدريب الطيارين بشكل جديد كليا مقارنة بما كان يتم قبل 67 حيث كان التدريب وقتها كلاسيكيا وفرديا وضعيفا في الوقت ذاته، فقد كان الطيار يطير نحو 6 ساعات شهريا ، وابان هزيمة يونيو كان هناك طيارين لم يطلقوا النار منذ سنة او سنة ونصف. وتبعا لنظام التدريب الجديد كان الطيار يطير 20 ساعة شهريا ويطلق النار من الطائرة 10 مرات شهريا وأدى كل هذا الى طفرة في مستوى وكفاءة الطيار المصري.

ومع بداية حرب الاستنزاف كانت القوات البرية وبخاصة قوات الصاعقة تخوض معارك عنيفة وبطولية إلى اقصى حد مع القوات الإسرائيلية وكانت تعبر إلى الضفة الشرقية فتدمر مواقع وتأسر جنود حتى وصل الأمر إلى العبور في “عز الظهر” لتنفيذ عملية “لسان بورتوفيق” الشهيرة التي تم فيها تدمير هذا الموقع تماما وقتل كل من فيه في العاشر من يوليو 1969.

في هذة المرحلة قررت إسرائيل الدفع بالطيران للضرب في الجبهة المصرية وكان ذلك في يوم 20 يوليو 1969 وضربت بورسعيد الساعة 2 ظهرا ، وبعد ساعتين صدرت لنا الأوامر بالهجوم على موقعين إسرائيليين في سيناء احدهما موقع شئون إدارية والاخر موقع لصواريخ الهوك التي كانت تشكل احدث تكنولوجيا في الترسانة الأمريكية في هذا الوقت ، وكان بإمكان هذا الصاروخ الانطلاق على ارتفاعات منخفضة جدا لا تتجاوز 30 متر وعلى جانبنا كانت الطائرات التي انطلقنا بها وهي الميج 17 مصنعة عام 1948!

لكن لإيماننا بقدرة الطيار المصري فقد انطلقت بالسرب في السادسة مساءا زحفا على ارتفاع 15 متر وعبرنا سيناء لأول مرة منذ عامين وبرغم هذا الارتفاع المنخفض جدا انطلق صاروخ الهوك علينا بالفعل ومر على بعد امتار من طائرتي ووصلنا للموقع ودمرناه كما تم اسقاط طائرتين اسرائيليتين من طراز ميراج بواسطة طائرات الميج 21 المصرية واستشهد لنا طيار واحد.

واستثمارا لهذا النجاح الكبير تم استغلال هذا التكتيك في تدمير هذا الموقع بالذات كلما اعيد بناءه ولمدة سنة كاملة نظرا لأنه كان يعوق دخول القوات الجوية المصرية من المحور الشمالي. وطوال هذا العام لم يتمكن العدو من التعامل مع هذا التكتيك لأنه كان محسوبا بالثانية حيث كان يتم تدمير الموقع في تسع دقائق بالضبط ثم تقوم طائراتنا بالدخول استغلالا لهذة الثغرة وضرب تمركزات العدو قبل ان يتم اعادة بناء الموقع والذي كان يستغرق 12 ساعة. واستمر هذا الوضع حتى وقف اطلاق النار في 8 أغسطس 70 بعد مبادرة روجرز. وبنهاية حرب الإستنزاف بدأنا التفرغ للتدريب المتواصل والتحضير لمعركة التحرير.

واين كان مبارك من كل هذا؟

نتيجة خلافات متراكمة بين قائد القوات الجوية في ذلك الوقت الفريق مدكور ابوالعز وبين وزير الدفاع الفريق اول محمد فوزي قرر الرئيس جمال عبد الناصر عزل قائد القوات الجوية الفريق مدكور أبو العز وإحالة 19 من قادة القوات الجوية إلى المعاش وتعيين ضابط برتبة اقل من وزير الدفاع في هذا المنصب، فتولى العميد مصطفى الحناوي قيادة القوات الجوية وتولى العميد علي بغدادي رئاسة الأركان.

ونتيجة لهذة المصادفة البحتة أصبح مبارك رقم 3 في القوات الجوية بعد أن كان رقم 22 وتولى في أكتوبر 1967 إدارة الكلية الجوية نتيجة جهوده المعروفة في الانضباط . في هذا الوقت كان مطلوبا من الكلية الجوية تخريج عدد كبير من الطيارين نتيجة العجز المتراكم منذ سنوات، كما ان مقر الكلية نُقل من بلبيس إلى ثلاث مقرات بديلة في امبابة والمنيا ومرسى مطروح بعيدا عن الجبهة . وفي هذا الوقت الحرج قام العميد حسني مبارك بدور هائل في ادارة الكلية من ثلاث مواقع فضلا عن التدريب المتواصل لتخريج الدفعات في اقصر وقت ممكن.

وفي مايو 1969 عُين العميد طيار محمد حسني مبارك رئيسا لأركان حرب القوات الجوية ليصبح الرجل المسئول عن العمليات طوال حرب الإستنزاف حيث لعب دورا جيدا جدا وسط الطيارين دعما وتشجيعا ومناقشة في نتائج الطلعات.

هل ترى ان مبارك هو صاحب الفضل الأول في هذة الحرب؟

بداية حرب أكتوبر 73 في رأيي ليست من أروع حروب التاريخ ولكنها بالفعل أروع وأعظم حرب في التاريخ ، لعدة أسباب علمية أولا: فقد دخلنا المعركة في ظل تفوق إسرائيلي واضح في السلاح والتكنولوجيا ففي الوقت الذي كانت تمتلك فيه قوات العدو آخر ما انتجته العقول في الولايات المتحدة وفرنسا كنا نعاني من المعدات السوفيتية العتيقة.

ثانيا: القوات الإسرائيلية متحصنة بأقوى خط دفاعي عرفه التاريخ (خط بارليف) المكون من 35 نقطة حصينة بطول القناة عبارة عن قلعة لا يمكن اختراقها. هذا الخط قال عنه الخبراء السوفييت انه لا يمكن اختراقه الا بقنبلة ذرية.

ثالثا: هناك ايضا اصعب مانع مائي في العالم وهو قناة السويس.

رابعا: اسرائيل دولة نووية.

خامسا: اسرائيل تتلقى دعما أمريكيا مفتوحا.

لكن الإنسان المصري هو الذي تغلب على كل هذة الصعاب بأفكار مدهشة وعبقرية.. وهو نفسه الذي خاض هذة الحرب جنديا وقائدا ومدنيا ايضا.

بعد كل هذا لا يمكننا اختزال هذة المعزوفة السيمفونية في قرار او في ضربة جوية لأن هذا مجهود مئات الالوف ولا يمكننا حتى ان نقول ان فلانا هو الذي ادى اكبر او افضل دور. حينما نقول ان حرب أكتوبر هي الضربة الجوية الأولى فنحن بذلك نسطح الأمور جدا ونظلم حرب أكتوبر التي هي اعظم واكبر شأنا من مجرد ضربة جوية أولى.

حسنى مبارك قام بأعمال جيدة ولاشك لكن اخطاءه العسكرية كانت فادحة ايضا وان كان هذا ليس الوقت المناسب للحديث عنها.

والضربة الجوية الأولى لم تكن من تصميم او تخطيط حسني مبارك وإنما قام بالتخطيط لها فرع العمليات بأكمله برئاسة اللواء طيار محمد شبانة رحمه الله.

والاعلام الساذج الخبيث نفسه حينما يتحدث عن الضربة الجوية الأولى فهو ينسب الفضل إلى غير أهله ويتناسى جهود جنود عظام فالضربة الجوية الأولى قام بها 6 الاف فرد بينهم 200 طيار و500 مهندس و5000 ميكانيكي ، وهناك من قام بأضعاف الجهد الذي قام به مبارك لكن احدا لا يذكرهم على الاطلاق.

فعلى سبيل المثال المهندس اللواء جمال محمد علي رئيس الهيئة الهندسية التي قامت ببناء كمية تفوق الخيال من المباني طوال السنوات الست التي سبقت الحرب ضمت بناء مطارات جديدة بالكامل وتطوير المطارات القديمة وبناء دشم حماية الطائرات في كل المطارت ، وهذة الدشم كانت فكرة مصرية خالصة عبارة عن غرفة اسمنتية لحماية الطائرات قام ببناءها المهندسين والعمال المصريين بينهم اولاد وبنات في عمر الزهور رأيناهم بأعيننا .. ألم يشارك هؤلاء في حرب أكتوبر؟ وقد كان نتيجة عملهم ان القوات الإسرائيلية لم تستطع تدمير طائرة واحدة على الأرض.

اللواء محمد علي فهمي قائد قوات الدفاع الجوي الذي استطاع في ليلة واحدة ان ينقل كل وحداته الى القناة بطول 180 كيلو متر.

اللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية الذي لم يحضر للأسف حرب أكتوبر نتيجة ابعاده في اكتوبر 1972. هذا الرجل هو الذي صنع تاريخ القوات البحرية بالعمليات التي اشرف على تنفيذها بنفسه خلال حرب الاستنزاف ومنها عمليات ايلات المشهورة.

فصائل المهندسين العسكريين الذين قاموا بتجريف الساتر الترابي بمدافع المياه وهي الفكرة التي ابتكرها المهندس باقي ذكي يوسف.

هناك ايضا اللواء ابراهيم شكيب الذي ابتكر فكرة سد فتحات النابالم تحت مياة القناة.

وقبل كل هؤلاء لا يمكن ان ننسى مهندس هذة الحرب العظيمة الفريق سعدالدين الشاذلي رحمه الله الذي اهين ومحيت ذكراه عمدا. هذا الرجل الذي ظل يعد لكل تفصيلة دقيقة من الحرب على مدى ثلاث سنوات.

فاختزال حرب أكتوبر في الضربة الجوية الأولى يغطى على اعمال كل هؤلاء.

كيف ترد على من يقول أنه يكفي الرئيس مبارك أنه جنب مصر خطر الحروب على مدى ثلاثين عاما؟

الحرب ليست كلها شر ففيها خير كثير جدا فالتقدم العلمي كله كان نتاج للحروب فالقنبلة الذرية ظهرت نتيجة للحرب، ولو كنا حاربنا خلال الثلاثين سنة الماضية كنا على الاقل سنموت بشكل كريم لا ان نموت في عبّارة او بفيرس سي او في قطار مشتعل.

هل كنت تتوقع ما فعله الشباب في ثورة يناير؟

فوجئت طبعا بما فعله الشباب، وأرى ان هذة الثورة تقف على قدم وساق مع حرب أكتوبر فنحن حررنا الأرض لكن ارادة الوطن لم تتحرر واختطف الوطن منا للأسف بواسطة رجال اعمال وامن وعصابات ، فهؤلاء الثائرين اعادوا الوطن المخطوف.