[size=18]
[/b]
تابعت بنصف اهتمام أخبار القافلة المتجهة لغزة لتوصيل المعونات وربما إحداث ثقب في الحصار. هذه الأخبار كثيرة علي كل حال، وفي الوقت نفسه لم أعتقد أن هناك خطرًا حقيقيًا علي أعضاء القافلة.. هي لعبة إعلامية مدروسة جيدًا تهدف إلي إحراج إسرائيل وفضح تعنتها، وربما يصيب مصر جانب من الهجوم اللفظي كذلك. السيناريو المتوقع والمنطقي هو أن تحتجز الحكومة الإسرائيلية القافلة عدة أيام ثم تعيدها من حيث جاءت.
كان هذا اعتقادي إلي أن فتحت قناة «الجزيرة» في ذلك اليوم، فوجدت المذيعة تتحدث عن الاعتداء علي سفن القافلة.. بل رأيت جرحي ينزفون وأناسًا يرقدون علي الأرض غارقين في برك دم، مع حديث عن الفعل الإجرامي وكلام عن 19 قتيلاً ونحو 50 جريحًا.. وهناك لقطات من علي سطح سفينة توحي بحرب.. لا شك أن عددًا كبيرًا ممن رأيتهم أمس يتناولون طعام الغداء صاروا موتي غارقين في دمهم.
يا نهار اسود ومنيل!... لم يبلغ أكثر كوابيسي جموحًا هذه الدرجة. هل جن الإسرائيليون تمامًا؟.. كل طفل يعرف أن هذه سفن مدنية محملة بنشطاء سلام من كل الجنسيات. أي أن أي دولة استعمارية تملك عقلاً كانت ستسمح بمرور هذه السفن وتكسب نقطة، أو - إن كانت ماضية في غيها - تحاصر هذه السفن عدة أيام لتمنعها من المرور وتضطرها إلي العودة. أما أن تطلق النار وتحدث مجزرة فهو الجنون بعينه.
هل جن هؤلاء وصارت لهم بدل العقول عبوات من النابالم، أم هم يعرفون ما يفعلون جيدًا؟.. لعلهم أرادوا البرهنة علي أنهم لا يمزحون ولا يهادنون علي طريقة (الصدمة والترويع). لقد اعتادت إسرائيل العقاب.. أدمنته منذ مذبحة دير ياسين مرورًا ببحر البقر ومذبحة قانا وانتهاء بمهاجمة هذه القافلة المدنية.
وماذا عن دم الغربيين الذين ماتوا أو جرحوا؟... لقد اعتدنا أن الدم الغربي له ثمن إلا في هذه المواقف.. لقد رأينا في موقف سابق كيف تلقي الناشطون الغربيون علقة علي يد الشرطة المصرية لم يتلقها حرامي في مولد أو حمار في مطلع، ولم تتكلم دولة غربية واحدة لأن هؤلاء ضربوا أثناء قيامهم بعمل مشين هو الاحتجاج علي إسرائيل.
لقد رأينا الجرافة الإسرائيلية تهشم رأس راشيل كوري في جريمة موثقة جيدًا، وهي مواطنة أمريكية، أي أن دمها غال جدًا، لكنها لاقت حتفها وهي تدافع عن الفلسطينيين.. إذن فلتمت بلا ثمن، ولتتسامح الحكومة الأمريكية كما تسامحت مع قتلي السفينة «ليبرتي» من قبل.
علي الفور تداعت الأحداث بسرعة، وبدأ الروتين المعروف الذي يتكرر كلما حدثت مذبحة: اللعبة المملة مستمرة.. غضب.. مظاهرات في عدة عواصم.. اجتماع عاصف في مجلس الأمن.. العجز عن اتخاذ قرار يوجه اللوم لإسرائيل خاصة أن الفيتو الأمريكي جاهز، وعضو الولايات المتحدة يصحو من نومه يوميًا ليستعد للفيتو إلي أن يجيء المساء فينام.
كالعادة ظهر عمرو موسي وبدا منهمكًا ومتعجلاً جدًا تحاصره الميكروفونات، ودعا لاجتماع مجلس الجامعة العربية، ثم أدلي بتصريح مهم جدًا هو أن إسرائيل علي ما يبدو لا تريد السلام!
تذكرت صديقًا لي يعاني مشاكل لا تنتهي مع جاره (عباس).. الجار قد ألقي القمامة أمام بابه.. سكب الماء القذر علي غسيله.. في كل مرة يأتي صديقي لي ليقول في دهشة: «تصدق عباس ده طلع مش جدع؟!»
وتستمر نفس المسرحية.. عباس جرجر صديقي في الأقسام واتهمه بالتحرش بزوجته، واستأجر بلطجية لضربه، واستأجر نسوة يمزقن ثياب زوجته في الشارع.. في كل مرة يأتي صديقي ليقول وهو يجفف عرقه أو دمه: «علي فكرة عباس ده طلع مش جدع!». فأجن أنا غيظًا.. عباس فعل كل شيء ممكن ليثبت أنه وغد، فماذا تنتظر أنت؟
بالله عليكم كيف تثبت إسرائيل أنها غير جادة في عملية السلام، بل هي لا تريد السلام أصلاً؟.. ماذا تفعل وعلي أي شيء تقسم؟.. أحرقت الديار وقتلت الأطفال وخنقت غزة وأنتم مصرون علي أن السلام خيار استراتيجي.. كيف تثبت هذه الدولة المسكينة أنها عدوانية شيطانية و«مش جدعة»؟.. لو علقت أطفالكم علي المشانق وسكبت عليكم الكيروسين المشتعل، لظللتم تعتقدون أن السلام ممكن.. فقط إسرائيل تجعله صعبًا بعض الشيء.
كلما شعرت بأنني فاشل في حياتي أو لم أحقق شيئًا، تذكرت وزراء الخارجية العرب.. عندها أشعر بأنني رائع وترتفع معنوياتي. كل كائن في العالم له نفع ما، حتي الذبابة تلعب دورًا عجيبًا في أنها تنقل لقاح شلل الأطفال من طفل لآخر قد يكون غير مُطعّم، لكن من العسير فعلاً أن تجد نفعًا لهؤلاء السادة.
يأتي رد الفعل الأقوي - كما هي العادة منذ أعوام - من تركيا.. ويبدو أن نبوءة هيكل القديمة عن تضخم دور دولتين محوريتين في المنطقة هما تركيا وإسرائيل كانت دقيقة جدًا. هذا الكلام قيل منذ خمس سنوات تقريبًا.. لا شك في أن تركيا احتلت بالضبط الموقع الذي كان يجب أن تحتله مصر، حتي إنها توشك أن تصير الشقيقة الكبري لكل العرب، بينما مصر مشغولة.. بم بالضبط؟! بانتخابات الشوري ومشاكل شوبير ودية سوزان تميم ومباراة الجزائر وأشياء كثيرة جدًا لا جدوي منها غالبًا.
إن لهجة تركيا قوية وغضبتها صادقة بلا شك، ويبدو أن هذا راق للعرب جدًا.. أن يكسبوا في صف القضية الفلسطينية دولة قوية شامخة مثل تركيا.. دولة من الدول التي يعمل حكامها من أجل شعوبهم لا ضدها. إن تركيا وإيران عمق استراتيجي إسلامي لابد من الاستفادة منه كما قال الأستاذ فهمي هويدي يومًا، ومن الخطأ أن نفقد إيران لأن الولايات المتحدة أقنعت البعض بأن إسرائيل أقرب لهم منها. لماذا تعالت صيحة (هؤلاء رافضة يسبون الصحابة) بعد هزيمة إسرائيل مرتين في لبنان؟. لم يتغير شيء وتاريخ الشيعة وفكرهم معروف، فلماذا تعالت حرارة الشحن في الأعوام الأخيرة بالذات؟
لاحظ بعض المعلقين أن لهجة الغضب التركية بدأت تخف مع الوقت، ولربما تغلبت لغة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في النهاية.. إن المصالح الاقتصادية أقوي من أي مبادئ أو عواطف، والدليل أن الدول الغربية لم تحرك ساكنًا ضد إسرائيل بينما المظاهرات الغاضبة تملأ شوارعها، لكننا بالتأكيد نشهد أيامًا فريدة. عزلة إسرائيل تتزايد برغم أنها تثبت للمرة الألف أنها فوق العقاب.. جنون القوة يعميها تمامًا.. ساستها يتصرفون بغباء واضح.. أي جولة في المواقع الغربية علي الإنترنت تتيح لك قراءة كلام لم تتصور أن يكتبوه عن إسرائيل من قبل، لدرجة أنني حسبت بعض العبارات قد كتبها عرب. إن الحقيقة التي نعرفها نحن منذ عقود قد بدأت تتكشف ببطء للغرب. بالتأكيد ستكون هناك قوافل أخري ولسوف يزداد موقف إسرائيل سوءًا. لا جدوي من أوباما فهو مجرد رجل مثقف طيب وغلبان أمام الديناصورات التي تحرك السياسة الأمريكية. لا جدوي من الحكومات العربية فقد ارتضت الجلوس في كواليس التاريخ تراقب المسرحية الدائرة علي الخشبة، ولا تجرؤ علي المشاركة ولو بسطر.. فقط تكتشف بعد كل صفعة جديدة أن (عباس مش جدع).
أحمد خالد توفيق[b] ·