هكذا بالترتيب: انتهى عصر السكن الرخيص، ثم انتهى عصر الوقود الرخيص، والآن انتهى عصر الطعام الرخيص.. ولم يعد هناك في العالم أي شيء رخيص باستثناء الإنسان.
كان أبي لا يملك إلا راتبه، وبالتأكيد كان محدوداً كأي موظف مصري في الستينيات، وبرغم ذلك استطاع أن يؤجر منزلاً يطل على شارع رئيسي من الأمام، وحديقة صغيرة من الخلف.. المنزل كان متسعاً إلى حدّ لا يصدق ككل بيوت هذه الأيام.. الشرفة وحدها بحجم شقة كاملة.. فيها لعبنا -نحن الصغار- مباريات كرة قدم شاملة الجري والترقيص.. وتطلعنا إلى القبة السماوية المفعمة بالأسرار.. ورسمنا خرائط دقيقة لمواقع النجوم.. وشهدنا منازل القمر وتقلبات الفصول.
منزلنا كان يطل على الاتجاهات الأربعة. بعض الغرف تناسب الصيف وأخرى للشتاء.. وفي الشرفة الخلفية المطلة على الحديقة الصغيرة كنا نشاهد شروق الشمس مضرجاً بالدماء.. وبهاء الصباح الرائق وهو يخلع ثوب الليل كاشفاً عن أسراره الجميلة. دفء الضحى وشعاع الشمس يلثم الغصون، وفرحة الفراشات بيوم جديد.. والطفولة تصبغ كل هذه الأشياء بمذاقها الحلو الفريد. بيت هو رمز الأيام السعيدة، والقلعة الحصينة وسط تقلبات الأيام ومتاعب السنين.
في ستينيات القرن الماضي استأجره أبي بسبعة جنيهات كانت تمثل ربع راتبه تقريباً.. ولعله اشتكى وقتها من جنون الأسعار وغلاء البيوت.. ولعل بيته بدا قزماً بالمقارنة ببيت والده، فأشفق على طفولتنا أن تحبس في تلك الجدران الضيقة بعيداً عن رحابة الأفق وصدى الصوت ومزارع الجيران.
لم يعرف أنها أيام خير وبركة إلا حينما مرت الأيام وعرفنا مصطلحات جديدة مثل خلو الرِّجْل والشقة التمليك.. وكان وجهه يصفر حينما يسمع عن خلو بعشرة آلاف جنيه أو شقة تمليك بأربعين ألف جنيه.. وفي كل مرة نظن أن الغلاء بلغ سقفه الأعلى ولم يعد أمامه سوى الثبات أو الهبوط.. وفي كل مرة تخيب التوقعات، وتعلو الأسعار، وتتضاءل المساحات.. شقق ضيقة كعشش الدجاج واختفت الشرفات التي كانت مكوّناً رئيسيّاً من مكونات طفولتنا.. فيها مارسنا ألعابنا وعشنا مراهقتنا، وشاهدنا آباءنا يقرؤون الجريدة في ضوء الشمس.
كل هذا قبل أن تحدث الطفرة.. طفرة لا يفسرها ارتفاع الأسمنت مهما ارتفع، أو حتى تحوّل الحديد إلى معدن ثمين؛ لأن زيادة الضعف والضعفين في العام لا يفسرها سوى المضاربة.. خصوصاً في سوق هشة ترتكز على الحالة النفسية وليس الحقائق.. تذكرون كيف ارتفع الدولار إلى سبعة جنيهات وربع دون سبب واضح ثم انخفض جنيهين بلا تفسير.. وتذكرون حكاية الدينار العراقي المزعوم ومصائب البورصة التي خربت بيوتاً كثيرة.. وكلها أشياء تشير إلى سلوك "القطيع" الذي يحكم السوق المصري.. في حالة الركود تنخفض الأسعار، وإذا حدث إقبال على الشراء يتسابقون كالمجانين بصرف النظر عن احتياجاتهم الفعلية..
والعدل يقتضينا ألا نلوم القطيع على ذعره وخوفه من المستقبل؛ لأنه يعلم بالفطرة أنه لا توجد آليات واضحة تحكم السوق.. لذلك لا تلم نفسك؛ لأنك لم تشتر شقة حينما كانت الأسعار رخيصة نسبيّاً (بفرض أنك كنت تملك ثمنها) لأنك لا تعلم الغيب..
أن تجهل الغد ولا تعرف الغيب، هذا ليس عيبا في أي دولة محترمة لكنه في مصر سبب كافٍ لخراب بيتك.. يجب أن تكون عرّافاً أو تحتفظ في صالون بيتك بآلة زمن لزوم التنبؤ بتقلبات السوق، صدقني..
منذ بضع سنوات كان يمكنك أن تمتلك شقة إذا امتنعت عن الطعام ووفرت راتبك لعشرة أعوام.. أو بعت خمس سنوات من أجمل سنين عمرك في بلد نفطي رابطاً الحزام على بطنك من أجل تحقيق غايتك.. ويفضل عدم الذهاب إلى أسواق حتى لا تنتعش رغباتك المكبوتة القائمة على الحرمان.. والأفضل أن تقتصر على الشراء من دكان الهندي الصديق المقابل لمنزلك؛ لشراء ما يلزمك؛ لعدم الموت جوعاً..
شكراً للحكومة.. اليوم لم نعد بحاجة للسفر أو ربط الأحزمة، والسبب أن أسعار العقارات قد ارتفعت إلى حد اليأس المريح الذي هو أحد الراحتين مع أخوها الموت.. فقد وصلت أسعار الشقق إلى ما يزيد عن النصف مليون في الأحياء العادية، وفوق المليون في الأحياء الراقية.. وهكذا حلت المشكلة نفسها بنفسها.. ولم يعد يمكنك أن تبتاع شقة، ولو بعد صيام مائة سنة، ولو حتى عملت في البقالة مع الهندي الصديق!!.
بعبارة أخرى لم ينتهِ عصر السكن الرخيص فحسب بل انتهى عصر السكن من أساسه..
ونأتي لمشكلة الوقود.. من المعروف أن الحضارة الإنسانية عاشت قروناً طويلة دون مصدر معروف للطاقة سوى نور الشمس وضوء الشموع.. وكانوا يستخدمون القوى العضلية للإنسان والحيوان حتى قرر العلماء أن يسخّروا قوى الطبيعة من أجل رفاهية الإنسان، فاكتشفوا طاقة البخار والفحم والبترول، والطاقة النووية والشمسية وحركة الرياح.. وتعوّدنا نحن البشر على الاستخدام المفرط للطاقة فيما كان أجدادنا يتماهون مع الطبيعة، وكانوا أسعد حالاً منّا بالتأكيد...
أهدر الإنسان موارد كوكبه الأرضي، واستخدم السائل الأسود الثمين في إفراط لا يتسم بالاتزان متسبباً في احتباس حراري مروع، وثقب الأوزون الذي انكسر فاحتاج بنط لحام.
ولأننا -معشر العرب- عالة على الحضارة الإنسانية؛ مستهلكين غير مبدعين لم نحسب حساباً لعصر الندرة القادم.. خبراء البترول أكدوا أن بترول مصر سوف ينفد خلال خمسة أعوام بعدها نعتمد بالكامل على الاستيراد.. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ستسير هذه السيارات التي تكدّست بها طرقاتنا؟ بل لماذا نستوردها من الأساس إذا كان السعر الحالي للوقود في مصر يستحيل أن يدوم، والمؤكد أنه سيقفز في الأعوام القادمة حتى يماثل سعره العالمي.
والأغرب أن تقاليد اجتماعية فارغة تعوق استخداماً رشيداً للطاقة.. دلوني على سبب واحد لإعراض الطبقة المتوسطة عن استخدام الدراجات الهوائية والنارية.. لماذا نخصّص من دخلنا الشحيح خمسين ألف جنيه على الأقل لشراء سيارة تزحم الطرقات الضيقة.. وتستهلك طاقة توشك أن تصبح نادرة وباهظة.. وتستهلك إسفلت الطريق وتؤدي لأمراض السمنة وتشوهات العمود الفقري وتعادي البيئة فيما يخلو استخدام الدراجة من كل هذه العيوب.
تقاليد اجتماعية غبية تجعل الأمر المنطقي مرفوضاً ومثيراً للسخرية.. فيما يستخدم الغرب الغني الدراجة بكل بساطة واحترام.
ثم يأتي من بعد ذلك الغذاء.. لسنوات قريبة كان طعام الفقراء رخيصاً رغم موجات الغلاء.. ثبات نسبي في أسعار الفول والعدس والزيت.. نوع من العدالة الاجتماعية المحمودة، وسياجاً للمستورين من ثورة الجياع التي لا تطال للأسف إلا الأبرياء..
كانت هناك أطعمة بعيدة عن متناول عامة الشعب كاللحوم.. لكن العزاء أن الإنسان -من الناحية الصحية- لا يحتاجها إلا بكميات محدودة، ونساء الطبقات الفقيرة يتفننّ في طهي الطعام بما يجعل الحياة ممكنة ومقبولة..
ثم تمكن العلماء من استخراج الوقود الحيوي من المحاصيل الزراعية.. صاعقة وقعت على رؤوس الطبقات الفقيرة تحرمهم حتى من حق التواجد البيولوجي.. ارتفعت مكونات طعام الفقراء من زيت وأرز وعدس وفول حتى صار مألوفاً أن نقرأ عن شهداء الخبز في صحف الصباح، وانتهى عصر الطعام الرخيص هو الآخر.. واحتشدت غيوم سوداء في سماء الغد تنذر بمجاعات وانقسام البشرية إلى طبقتين: واحدة تملك كل شيء، وأخرى لا تملك أي شيء..
والآن أصارحكم بشيء: لقد كتبت عن الحنين لمصر أكثر مما فعل أي كاتب آخر.. وأفضت في رصد جماليات الحياة المصرية إلى حد أوجع قلوب المصريين في الخارج.. وكنت أتلقى خطابات لعلماء مرموقين يعبرون عن حالات متقدمة من الحنين لأوطانهم..
كنت صادقاً حينما كتبت، ولم أكن أضلل أحداً.. المدهش أن هذا حدث منذ عامين فقط، واليوم أشعر -مع تغير الأحوال- أنه ماضٍ ينتمي إلى زمن سحيق.. واجب أخلاقي يدفعني الآن أن أقول بصدق: آسف.. كنت مخطئاً.. ربما كنت أحمق كذلك.. لا تعودوا ولا تقيموا أي اعتبار للحنين.. فهو من الخرافات المنقرضة كالسكن الرخيص والوقود الرخيص والطعام الرخيص.
ونصيحتي: (اثبت مكانك) بلغة الجيش.. رحم الله الأستاذ "فخري" معلم الرياضة البدنية في المرحلة الإعدادية الذي كان يطالبنا -نحن الصغار- أن نثبت في أماكننا حتى لو (قرصنا حنش)!!.. اليوم أطالبكم بنفس الشيء: اثبتوا في أعمالكم ولو (قرصكم حنش)؛ لأنكم حين تعودون للوطن لن يقتصر الأمر على (الحنشان)، وإنما الغيلان والعفاريت ومصاصي الدماء!..
في مصر لا يوجد شيء رخيص إلا الإنسان.. تستطيع أن تستأجر شاباً خريج كلية بمرتب ثلاثمائة جنيه شهريّاً. شاب يفيض صحة ورجولة، يستيقظ في الصباح في الوقت المحدد مهما سهر بالأمس أو عانى مغصاً طوال الليل.. يحلق ذقنه خصيصاً لك.. يتناول طعام الإفطار.. يرتدي ملابسه.. يركب مواصلة، يتشاجر،. يراوغ، يناور، يثرثر، يتنفس، يتكلم، يكح، يصيح، يتناقش، يعبر عن ذاته، يدافع عن كينونته، يضحك، يقطب، يتجهم، يبتسم، يأكل، يشرب، يتعامل مع الجمهور، يكتب أشياء.. يمحو أشياء.. يتنحنح.. يتملقك، يمدحك، يكرس حياته من أجلك.
هكذا طيلة ثمان ساعات يوميّاً، ثم يرجع إلى بيته بمواصلة جديدة وطعام جديد.. وكل هذا -صدّق أو لا تصدق- مقابل عشرة جنيهات في اليوم!!.
يا بلاش!!
.............
كان أبي لا يملك إلا راتبه، وبالتأكيد كان محدوداً كأي موظف مصري في الستينيات، وبرغم ذلك استطاع أن يؤجر منزلاً يطل على شارع رئيسي من الأمام، وحديقة صغيرة من الخلف.. المنزل كان متسعاً إلى حدّ لا يصدق ككل بيوت هذه الأيام.. الشرفة وحدها بحجم شقة كاملة.. فيها لعبنا -نحن الصغار- مباريات كرة قدم شاملة الجري والترقيص.. وتطلعنا إلى القبة السماوية المفعمة بالأسرار.. ورسمنا خرائط دقيقة لمواقع النجوم.. وشهدنا منازل القمر وتقلبات الفصول.
منزلنا كان يطل على الاتجاهات الأربعة. بعض الغرف تناسب الصيف وأخرى للشتاء.. وفي الشرفة الخلفية المطلة على الحديقة الصغيرة كنا نشاهد شروق الشمس مضرجاً بالدماء.. وبهاء الصباح الرائق وهو يخلع ثوب الليل كاشفاً عن أسراره الجميلة. دفء الضحى وشعاع الشمس يلثم الغصون، وفرحة الفراشات بيوم جديد.. والطفولة تصبغ كل هذه الأشياء بمذاقها الحلو الفريد. بيت هو رمز الأيام السعيدة، والقلعة الحصينة وسط تقلبات الأيام ومتاعب السنين.
في ستينيات القرن الماضي استأجره أبي بسبعة جنيهات كانت تمثل ربع راتبه تقريباً.. ولعله اشتكى وقتها من جنون الأسعار وغلاء البيوت.. ولعل بيته بدا قزماً بالمقارنة ببيت والده، فأشفق على طفولتنا أن تحبس في تلك الجدران الضيقة بعيداً عن رحابة الأفق وصدى الصوت ومزارع الجيران.
لم يعرف أنها أيام خير وبركة إلا حينما مرت الأيام وعرفنا مصطلحات جديدة مثل خلو الرِّجْل والشقة التمليك.. وكان وجهه يصفر حينما يسمع عن خلو بعشرة آلاف جنيه أو شقة تمليك بأربعين ألف جنيه.. وفي كل مرة نظن أن الغلاء بلغ سقفه الأعلى ولم يعد أمامه سوى الثبات أو الهبوط.. وفي كل مرة تخيب التوقعات، وتعلو الأسعار، وتتضاءل المساحات.. شقق ضيقة كعشش الدجاج واختفت الشرفات التي كانت مكوّناً رئيسيّاً من مكونات طفولتنا.. فيها مارسنا ألعابنا وعشنا مراهقتنا، وشاهدنا آباءنا يقرؤون الجريدة في ضوء الشمس.
كل هذا قبل أن تحدث الطفرة.. طفرة لا يفسرها ارتفاع الأسمنت مهما ارتفع، أو حتى تحوّل الحديد إلى معدن ثمين؛ لأن زيادة الضعف والضعفين في العام لا يفسرها سوى المضاربة.. خصوصاً في سوق هشة ترتكز على الحالة النفسية وليس الحقائق.. تذكرون كيف ارتفع الدولار إلى سبعة جنيهات وربع دون سبب واضح ثم انخفض جنيهين بلا تفسير.. وتذكرون حكاية الدينار العراقي المزعوم ومصائب البورصة التي خربت بيوتاً كثيرة.. وكلها أشياء تشير إلى سلوك "القطيع" الذي يحكم السوق المصري.. في حالة الركود تنخفض الأسعار، وإذا حدث إقبال على الشراء يتسابقون كالمجانين بصرف النظر عن احتياجاتهم الفعلية..
والعدل يقتضينا ألا نلوم القطيع على ذعره وخوفه من المستقبل؛ لأنه يعلم بالفطرة أنه لا توجد آليات واضحة تحكم السوق.. لذلك لا تلم نفسك؛ لأنك لم تشتر شقة حينما كانت الأسعار رخيصة نسبيّاً (بفرض أنك كنت تملك ثمنها) لأنك لا تعلم الغيب..
أن تجهل الغد ولا تعرف الغيب، هذا ليس عيبا في أي دولة محترمة لكنه في مصر سبب كافٍ لخراب بيتك.. يجب أن تكون عرّافاً أو تحتفظ في صالون بيتك بآلة زمن لزوم التنبؤ بتقلبات السوق، صدقني..
.....................
منذ بضع سنوات كان يمكنك أن تمتلك شقة إذا امتنعت عن الطعام ووفرت راتبك لعشرة أعوام.. أو بعت خمس سنوات من أجمل سنين عمرك في بلد نفطي رابطاً الحزام على بطنك من أجل تحقيق غايتك.. ويفضل عدم الذهاب إلى أسواق حتى لا تنتعش رغباتك المكبوتة القائمة على الحرمان.. والأفضل أن تقتصر على الشراء من دكان الهندي الصديق المقابل لمنزلك؛ لشراء ما يلزمك؛ لعدم الموت جوعاً..
شكراً للحكومة.. اليوم لم نعد بحاجة للسفر أو ربط الأحزمة، والسبب أن أسعار العقارات قد ارتفعت إلى حد اليأس المريح الذي هو أحد الراحتين مع أخوها الموت.. فقد وصلت أسعار الشقق إلى ما يزيد عن النصف مليون في الأحياء العادية، وفوق المليون في الأحياء الراقية.. وهكذا حلت المشكلة نفسها بنفسها.. ولم يعد يمكنك أن تبتاع شقة، ولو بعد صيام مائة سنة، ولو حتى عملت في البقالة مع الهندي الصديق!!.
بعبارة أخرى لم ينتهِ عصر السكن الرخيص فحسب بل انتهى عصر السكن من أساسه..
.........................
ونأتي لمشكلة الوقود.. من المعروف أن الحضارة الإنسانية عاشت قروناً طويلة دون مصدر معروف للطاقة سوى نور الشمس وضوء الشموع.. وكانوا يستخدمون القوى العضلية للإنسان والحيوان حتى قرر العلماء أن يسخّروا قوى الطبيعة من أجل رفاهية الإنسان، فاكتشفوا طاقة البخار والفحم والبترول، والطاقة النووية والشمسية وحركة الرياح.. وتعوّدنا نحن البشر على الاستخدام المفرط للطاقة فيما كان أجدادنا يتماهون مع الطبيعة، وكانوا أسعد حالاً منّا بالتأكيد...
أهدر الإنسان موارد كوكبه الأرضي، واستخدم السائل الأسود الثمين في إفراط لا يتسم بالاتزان متسبباً في احتباس حراري مروع، وثقب الأوزون الذي انكسر فاحتاج بنط لحام.
ولأننا -معشر العرب- عالة على الحضارة الإنسانية؛ مستهلكين غير مبدعين لم نحسب حساباً لعصر الندرة القادم.. خبراء البترول أكدوا أن بترول مصر سوف ينفد خلال خمسة أعوام بعدها نعتمد بالكامل على الاستيراد.. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ستسير هذه السيارات التي تكدّست بها طرقاتنا؟ بل لماذا نستوردها من الأساس إذا كان السعر الحالي للوقود في مصر يستحيل أن يدوم، والمؤكد أنه سيقفز في الأعوام القادمة حتى يماثل سعره العالمي.
والأغرب أن تقاليد اجتماعية فارغة تعوق استخداماً رشيداً للطاقة.. دلوني على سبب واحد لإعراض الطبقة المتوسطة عن استخدام الدراجات الهوائية والنارية.. لماذا نخصّص من دخلنا الشحيح خمسين ألف جنيه على الأقل لشراء سيارة تزحم الطرقات الضيقة.. وتستهلك طاقة توشك أن تصبح نادرة وباهظة.. وتستهلك إسفلت الطريق وتؤدي لأمراض السمنة وتشوهات العمود الفقري وتعادي البيئة فيما يخلو استخدام الدراجة من كل هذه العيوب.
تقاليد اجتماعية غبية تجعل الأمر المنطقي مرفوضاً ومثيراً للسخرية.. فيما يستخدم الغرب الغني الدراجة بكل بساطة واحترام.
............................
ثم يأتي من بعد ذلك الغذاء.. لسنوات قريبة كان طعام الفقراء رخيصاً رغم موجات الغلاء.. ثبات نسبي في أسعار الفول والعدس والزيت.. نوع من العدالة الاجتماعية المحمودة، وسياجاً للمستورين من ثورة الجياع التي لا تطال للأسف إلا الأبرياء..
كانت هناك أطعمة بعيدة عن متناول عامة الشعب كاللحوم.. لكن العزاء أن الإنسان -من الناحية الصحية- لا يحتاجها إلا بكميات محدودة، ونساء الطبقات الفقيرة يتفننّ في طهي الطعام بما يجعل الحياة ممكنة ومقبولة..
ثم تمكن العلماء من استخراج الوقود الحيوي من المحاصيل الزراعية.. صاعقة وقعت على رؤوس الطبقات الفقيرة تحرمهم حتى من حق التواجد البيولوجي.. ارتفعت مكونات طعام الفقراء من زيت وأرز وعدس وفول حتى صار مألوفاً أن نقرأ عن شهداء الخبز في صحف الصباح، وانتهى عصر الطعام الرخيص هو الآخر.. واحتشدت غيوم سوداء في سماء الغد تنذر بمجاعات وانقسام البشرية إلى طبقتين: واحدة تملك كل شيء، وأخرى لا تملك أي شيء..
......................
والآن أصارحكم بشيء: لقد كتبت عن الحنين لمصر أكثر مما فعل أي كاتب آخر.. وأفضت في رصد جماليات الحياة المصرية إلى حد أوجع قلوب المصريين في الخارج.. وكنت أتلقى خطابات لعلماء مرموقين يعبرون عن حالات متقدمة من الحنين لأوطانهم..
كنت صادقاً حينما كتبت، ولم أكن أضلل أحداً.. المدهش أن هذا حدث منذ عامين فقط، واليوم أشعر -مع تغير الأحوال- أنه ماضٍ ينتمي إلى زمن سحيق.. واجب أخلاقي يدفعني الآن أن أقول بصدق: آسف.. كنت مخطئاً.. ربما كنت أحمق كذلك.. لا تعودوا ولا تقيموا أي اعتبار للحنين.. فهو من الخرافات المنقرضة كالسكن الرخيص والوقود الرخيص والطعام الرخيص.
ونصيحتي: (اثبت مكانك) بلغة الجيش.. رحم الله الأستاذ "فخري" معلم الرياضة البدنية في المرحلة الإعدادية الذي كان يطالبنا -نحن الصغار- أن نثبت في أماكننا حتى لو (قرصنا حنش)!!.. اليوم أطالبكم بنفس الشيء: اثبتوا في أعمالكم ولو (قرصكم حنش)؛ لأنكم حين تعودون للوطن لن يقتصر الأمر على (الحنشان)، وإنما الغيلان والعفاريت ومصاصي الدماء!..
................
في مصر لا يوجد شيء رخيص إلا الإنسان.. تستطيع أن تستأجر شاباً خريج كلية بمرتب ثلاثمائة جنيه شهريّاً. شاب يفيض صحة ورجولة، يستيقظ في الصباح في الوقت المحدد مهما سهر بالأمس أو عانى مغصاً طوال الليل.. يحلق ذقنه خصيصاً لك.. يتناول طعام الإفطار.. يرتدي ملابسه.. يركب مواصلة، يتشاجر،. يراوغ، يناور، يثرثر، يتنفس، يتكلم، يكح، يصيح، يتناقش، يعبر عن ذاته، يدافع عن كينونته، يضحك، يقطب، يتجهم، يبتسم، يأكل، يشرب، يتعامل مع الجمهور، يكتب أشياء.. يمحو أشياء.. يتنحنح.. يتملقك، يمدحك، يكرس حياته من أجلك.
هكذا طيلة ثمان ساعات يوميّاً، ثم يرجع إلى بيته بمواصلة جديدة وطعام جديد.. وكل هذا -صدّق أو لا تصدق- مقابل عشرة جنيهات في اليوم!!.
يا بلاش!!
......................