بين موجتين .. كلتاهما صواب !!!!
كان لابد أن أكتب هذا المقال لأن الصراع داخلي قد اشتد مؤخراً ، ووجدتُ نفسي على قدر لا بأس به من الارتباك : أشتركُ عصراً في جروب على الفيسبوك اسمه "دقوا الجزائر" ، وعندما يأتي المساء أروّجُ لجروب آخر يدعو للتهدئة بين الشعبين المصري والجزائري .. (!!)
حسناً .. فلنحاول أن نتجاهل الكميات الهائلة من أدرينالين الغيظ والانفعال بداخلنا .. ولنأخذ نفساً عميقاً .. ثم نفكر معاً بهدوء ..
ليس الصراع في قضية (مصر والجزائر) صراعاً بين جمهورين فحسب .. بل تطور ليصبح صراعاً بين رأيين في كل جمهور على حدة .. بل صراعٌ بين موجتين قويتين داخل نفس كل منا ..
إن ما يحدث الآن لهو اختبار قوي نادراً ما نصطدم به بمثل هذا العنف .. تجربة عملية شديدة القسوة تجعلك تسأل نفسك : هل أنت مصري عربي ؟ أو مصري (عروبي قومي) بمعنى أصح ؟
إنه انفصال – غير طبيعي - مخزٍ مؤقت بين مصريتك وعروبيتك .. يجعلك تحدد موقفك الواضح تجاه كلٍ منهما .. ولكن .. هل يوجد أدنى تعارض بين الانتمائين ؟
ما هي المشكلة ؟ وما أسبابها ؟
مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر – وهو ما سيجعل الأجيال القادمة فعلاً تضحك منا حتى تستلقي على قفاها - .. قامت المشكلة بسبب تطاول بعض الهمج البلطجية الجزائريين على الجمهور المصري في السودان وإهانته وإهانة رموزه في الفن والثقافة ، وتدنيس العلم المصري. ثم بالتبعية حدوث حالة غليان عارمة في الشارع المصري للمطالبة برد الاعتبار واستعادة حقنا .
وأسباب هذه المشكلة تنقسم إلى قسمين :
- الأول (قبل المباراة) : في رأيي أن الإعلام في كلٍ من البلدين هو المسئول الأول والمجرم الأعتى الذي تسبب في حدوث هذه الأزمة .. إعلام رخيص تافه تم تسطيحه .. عمليات شحن جبارة للجمهورين – المصري خاصةً – لتحويل انتباهه عن مهازل داخلية تتم في مصر .. إعلام صنع من يوم المباراة يوماً مصيرياً بشكل مبالغ فيه .. في كل القنوات لا حديث إلا عن المباراة وأبطالها وعن (الجزائريين الوحشين) .. أغاني وطنية وأحاديث عن مصر عالية الهامة وانتصاراتها وأولاد بلدها الجدعان !! .. ما هذا العبث ؟؟؟
انساق الجمهور المصري طبعاً وراء هذا التغييب الإعلامي المُلحّ ، وأصبح يرى الحياة من منظور الإعلام .. ولا ألومه على هذا كثيراً فنحن شعبٌ لم نسمع عن الانتصارات منذ زمنٍ بعيد ، ولم نذق طعم فرحة حقيقية عارمة تجتاح الشعب منذ دهر .. حتى ولو كانت في عبثٍ كهذا .
وعلى الجانب الآخر في الجزائر جرت كارثة حقيقية .. فلقد اندهشت جداً من كتابات الصحف في الجزائر !! لم أتصور تدنياً في القول والفكر إلى هذا الحد !! إساءات لمصر ولشعبها ولتاريخها بتلفيقات لا تخدع طفلاً صغيراً .. لكن المشكلة أنها خدعت الجمهور الجزائري فعلاً وصدقها !! .. صدّق كتابات الصحف التي تقول أننا كمصريين قتلنا أفراداً من جمهور الجزائر .. وصدّق أننا (يهود) ونسى أننا نحن الذين هزمناهم ! .. ناهيك عن تصديقهم للتمثيليات التي قام بها فريقهم هنا في مصر ليقنعهم أنهم ظُلموا ولم يُرحب بهم !
عمليات الشحن هذه من الجانبين هي التي أدت لحدوث الكارثة في السودان .
- الثاني (بعد المباراة) : حالة الغليان – التي كنتُ جزءً منها – والتي أصابت كل أهل مصر .. وتشويه صورة مصر في الإعلام العربي والجزائري والعالمي .. وغباء الإعلام المصري كالمعتاد الذي ناقش المسألة محلياً فقط فأظهر كل رموزه المثقفين الناضجين – حتى الوقورين منهم – حانقين صارخين .. هذا طبعاً حقهم .. لكن ألم تسأل نفسك كيف ستظهر الصورة ؟ .. اعمل (zoom out) بلغة السينما وشوف الصورة من برة ..
في رأيي أن ثلث المشكلة مع الجزائر ؛ بينما ثلثيها عندنا هنا في مصر .. حالة الغليان والثورة في مصر تضاعفت بعدما اكتشف الشعب المصري أن حكومته لم تعبأ به ولم تثأر لحقه .. وأن المواطن المصري "هان على حكومته فهان على الجميع" كما قال إبراهيم عيسى .. انتظر المصريون تحركاً رسمياً فلم يتم .. تابعوا خطاب الرئيس فوجوده لا يغني ولا يسمن من جوع .. تظاهر المواطنون بشكل سلمي في مصر احتجاجاً فتم اعتقالهم ..
هذا كله ضاعف من كرههم للجزائريين على سبيل (فشّ الغل) ..
وأتفق مع د. جلال أمين تماماً هنا عندما قال : إن الحماس الشديد قبل المباراة وأثناءها وبعدها ليس سببه الحب الشديد للوطن، بل سببه هو نفس هذه الظاهرة التى أتكلم عنها: ظاهرة الجماهير الغفيرة. الحماس يشتد لمجرد أنك أصبحت جزءا من جماعة كبيرة جدا، والصياح يعلو لأنك ترى وتسمع آلاف من الناس يقومون بالصياح مثلك، والزمامير تشتد لأنك تعرف أنك واحد من آلاف الزمارين والطبالين
وكالعادة في النقاشات التي تابعتُها هنا وهناك بخصوص العرب وردود الفعل : افتقار تام للغة الحوار ، وانعدام المنطق ، ومنتهى الهمجية في الأسلوب ، وانسياق تام مع الموجة .. أنا ضد التعميم ، لذلك كرهت بعنف لهجة "كفايانا عروبة وأخوة ما دام ده اللي بيجيلنا من وراها" .. من يقول هذا الكلام هل يعي حقاً ما يقول ؟ هل يعرف حجم المصيبة التي يروّج لها ؟
يا أهل مصر لنا حق .. فلا تضيعوه بغضبكم وسخطكم الزائد .. لأهالينا الذين ضربوا وأهينوا في السودان حقوق ، و رد اعتبار واجب .. فلا تردوا على السباب بالسباب .. وأرجوكم كفانا ترديداً لنغمة "مصر عملت وسوت وانتوا لحم كتافكو من غيرنا" .. إن ما فعلته مصر لكل دول العرب كان واجبها باعتبارها الشقيقة الكبرى لهم سواء شاء الكل أم أبى .. إن مصر لم تفعل ما فعلته لكي تُباهي به بعد ذلك كما نفعل الآن ، فلا تُتبِعوا إحسانكم بالمن والأذى ..
الشقيقة الكبرى عندما تُذكّر الكل دوماً أنها الشقيقة الكبرى ؛ فهذا يعني أن الشقيقة الكبرى تعاني من مشاكل نفسية !
أجل طبعاً سيظل العرب على اليوتيوب والفيسبوك يسبون مصر ويسيئون لها .. لكن نظرة واحدة بسيطة منك لـ لغتهم في التعبير تجعلك تدرك أنهم مجموعة من الرعاع لا خطر منهم ولا ضرر .. لنا أخوة عرب يهيمون عشقاً بمصر ويدافعون عنها فلا تصدوهم هكذا.
ما هو موقفي النهائي من هذا كله ؟
أنا غاضب بسبب الانتهاكات التي حدثت للمصريين في السودان ولن أهدأ حتى أرى الضرر يصيب من فعل هذا من همج الجزائر .. وانا ساخط على سياسة دولة الجزائر التي دعمت هذا كله وأطلقت البلطجية من سجونها ليتم شحنهم للسودان ليفعلوا بنا ما فعلوا ..
وفي نفس الوقت لا أخفي غضبي الشديد من تمزيق معنى العروبة في الآونة الأخيرة والفصل التام الغريب الذي حدث بين انتمائنا لمصر وبين كوننا عرب أشقاء .. أثار جنوني ما تكتبه عنا إسرائيل ساخرةً في صحفها !
لذلك .. أنا مع مقاطعة كل ما يمثل الجزائر (رسمياً) بسبب موقف حكومتها العدائي حتى نحصل على رد اعتبار .. لكني لا أحمل في قلبي ضغينة لشعب الجزائر ولمثقفيها .. قرأت الكثير من تعليقات أهل الجزائر الذين يؤكدون أنه لا علاقة لهم بما حدث ويعيشون حالة اكتئاب بسببه ..
ولن أصرف انتباهي أكثر من هذا لقضية كهذه نالت أكثر بكثير من حجمها بسبب إعلام غبي مضلل ..
ورداً على السؤال المهم والأساسي في القضية : نعم .. انا مصري عربي .. ولا أستطيع العيش بغير الصفتين .
ثمة أمنية صادقة أخيرة من قلبي لكل مشجعي الجزائر الذين أهانونا في السودان : أتمنى أن أرى في القريب العاجل كل واحدٍ منهم مستريحاً في جلسته تماماً كما سليمان الحلبي في آخر لحظات حياته !
هذه كلمتي النهائية في الموضوع الذي لن أفتحه ولن أعبأ به بعد اليوم !
أحمد صبري غباشي
الأحد 22 نوفمبر 2009