بمناسبة مرور خمسون عاما على اكتشافه
اكتشاف تركيب الـ DNA ... هل هو نصر لأب واحد ؟!!
خلال نصف القرن المنصرم يندر ان توجد مادة علمية تفوق أهمية لحظة اكتشاف تركيب جزيء DNA ومن ثم تكون جديرة بنصبها كرمز أو أيقونة تعبيرية للتقدم الكبيرفي دنيا العلوم. حقا لقد كان ذلك الحدث لحظة تاريخية محورية عندما أميط اللثام أخيرا عن خفايا تفاصيل كينونة جزيء الحياة المشهور باللولب المزدوج double helix ولعله هو ما وصفة ابن الفارض ببلاغة فذه و ان كان فاته ادراكه عندما قال:
وتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
في الواقع قله هي تلك الاكتشافات العلمية المفرده التي سرعان ما تقود الى تقدم وتطور حقيقي لمجالات علمية متشعبة، وان شئت دليلا على ذلك فراجع اثر اكتشاف تركيب الـ DNA قبل نصف قرن على حزمة الافرع العلمية المتنوعة ابتداء من الأحياء والكيمياء ومرورا بالطب والزراعة وانتهاءً بالصناعة والتقنية الحيوية و لعل من احدث ذلك وحدات المعالجة الالكترونية التي تستخدم شرائح الـ DNA الحاسوبية . و بالرغم من كل هذه الهالة والبريق لما وصف بأنة من اعظم الإنجازات العلمية في العصر الحديث وبالرغم من ان DNA مرتكز العديد من الأحداث العلمية المشاغبة والمثيرة للاهتمام الإعلامي مثل الاستنساخ والأغذية المعدلة وراثيا (الهندسة الوراثية ) ومشروع الخارطة البشرية (الجينوم) الا ان الغريب (والمقلق من جهه أخرى ) ان الاحتفالات العلمية و الأكاديمية في جميع أنحاء العالم بمناسبة مرور خمسين عاما على هذا الحدث العلمي البارز تكاد تمر دون تغطية إعلامية تذكر .من وجهة النظر العلمية فان المنتسب الى القطاع العلمي التطبيقي قد يصاب بخيبة أمل مريرة عندما يلاحظ ان وسائل الإعلام في هذه السنة بالذات في مقابل إهمالها لهذا الحدث العلمي الضخم فإنها قد اهتمت بالاحتفال باليوبيل الذهبي لأمور و أحداث اقل أهمية بكثير مثل مرور نصف قرن على أول تسلق لقمة إفرست او قيام الثورة الشيوعية في كوبا او اندلاع الحرب الكورية او تتويج الملكة اليزابث الثانية او حتى على الصعيد العربي مرور خمسون عاما على انطلاق إذاعة صوت العرب .على كلا هنالك اختبار آخر قريب لمدى شعبية الإنجازات العلمية الكبرى ، فان مر الاحتفال هذه السنة في شهر ديسمبر بمرور مائة عام على نجاح الأخوين رايت في تحقيق حلم الانسان القديم بالطيران ، فاذا مر هذا الحدث العلمي البارز دون تغطية إعلامية وافية، فعلى العلماء بدلا من إقامة الاحتفالات الأكاديمية الاستعراضية، ان ينظموا المجالس العلمية و ورش النقاش الطارئة لتدارس أسباب و أثار ضعف الاهتمام و السمعة الاجتماعية للعلم والتقنية لدى شرائح المجتمع.
على أكتاف العمالقة
لا يحتاج المرء لكثير فطنة ليدرك ان العالمين البريطاني فرانسيس كرك والامريكي جيمس واطسون الحاصلين على جائزة نوبل في الطب عام 1962 م و اللذان كانا أول من نشرا بحثا علميا في عام 1953 م يبين التركيب الصحيح لجزيء DNA ، قد اكتسبا شهرة طاغية ونجومية لامعة في دنيا العلم نضير ارتباط اسميهما بهذا الفتح العلمي المميز. فبالإضافة لحصولهما على ترتيب معقول في كتاب العلماء المخترعين المائة الأوائل الأكثر أثرا في تاريخ البشرية فقد حصل واطسن بالذات على موقع متقدم في الاستبيان الذي جرى حديثا على شبكة الإنترنت لتحديد اكثر الأفراد أثرا في تاريخ البشرية في جميع الميادين. فمثلا لقد عد واطسون من ضمن اكثر الأشخاص أثرا في العلوم (تجدر الإشارة الى ان رسولنا الكريم اعتلى وبجدارة مرة أخرى قائمة اكثر الأفراد اثرا في مجال الأديان ). لكن هناك جانب أخر في الواقع زاد من نجومية واطسون الا وهو تأليفه لكتاب The Double Helix الصادر عام 1968 تلك السيرة الذاتية التي ألهمت ودفعت آلاف الشبان للانخراط في سلك علوم الحياة حيث عبر العشرات من كبار الأساتذة والباحثين عن اثر كتاب واطسون في توجيه مسار حياتهم العملية والعلمية . و اذا كان الشيء بالشيء يذكر، فتجدر الإشارة الى ان واطسون اصدر الجزء الثاني من سيرته الذاتية في العام الماضي تحت عنوان (ما بعد اللوبي المزدوج) والذي خصصه للحديث عن حياته بعد اكتشافه التاريخي وفي هذه السيرة إشارات إضافية لشهرته ونجوميته بسبب مغامراته ونزقاته العاطفية .
ينقل عن العالم الشهير نيوتن قوله المتواضع انه اذا كان يستطيع النظر للأفق البعيد (كناية عن المقدرة على الفهم الأعمق للمعرفة) فما ذاك الا لانه يقف على أكتاف العمالقة . في واقع الأمر، العديد من الاكتشافات العلمية الحاسمة هي تطبيق عملي و حقيقي لمقولة نيوتن السابقة، فما كانت هذه الاكتشافات لتتم لولا التراكم الزمني للمعارف والخبرات المتنوعة. ولعل خير مثال على ذلك قصة اكتشاف الـ DNA التي نحن بصدد الحديث عنها، ففي عام 1953 م عندما نشر البحث الصغير المكون من ورقة واحدة فقط في مجلة الطبيعة Nature الشهيرة كان قله من المجتمع العلمي تعرف الشاب واطسون الذي كان في أوائل الثلاثينات وحصل قبل ثلاث سنوات فقط على الدكتورة في حين ان فرانسيس كراك كان أسوء حالا فهو مازال يدرس الدكتوراه والتى لن يحصل عليها الا في الـ 38 من عمرة بعد مشقة كبيرة جعلت مشرفه الأكاديمي يصفه بانه طالب الدراسات العليا (الورطة) الذي قد لا يستطيع إكمال أطروحته العلمية. واذا كان حال هذين النجمين كما ذكرنا فالسؤال الذي يطرح نفسه بكل براءة كيف تنسى لهما إنجاز هذا الاكتشاف العلمي الضخم الذي كثيرا ما وصف بانه اعظم اكتشاف في العصور الحديثة ؟؟.
انه الاختلاس ياغبي ..
بالرغم من الصورة النمطية الراسخة ان اي اكتشاف او اختراع علمي كبير يسبقه جهود مضنيه من التجارب وسهر الليالي والتبتل والانعزال في محراب العلم الا ان اكتشاف واطسون وكرك يبدو انه الشذوذ الذي يثبت القاعدة السابقة، فالبعض يجادل بأنهما لم يجريا اي تجربة علمية فعلية أهلتهما لهذا الاكتشاف الأسطوري، وان الأمر بمجملة لا يعدو أنها فقط افلحا في بيان ( ولك ان تقول تخمين وحدس ) التركيب البنائي الجزيئي لـ DNA اعتمادا على كم كبير من نتائج التجارب العلمية المتنوعة التي قام بها باحثون وعلماء من عدة قارات وباستخدام علوم مختلفة . فالمجاز الذي قصده نيوتن من الوقوف على أكتاف العمالقة اصبح حقيقة في حالة واطسون وشريكه عندما اعتمدا وبشكل شبة كلى على النتائج العلمية لتجارب الآخرين . فحالهما كما وصف السلمي عندما قال
ويعجبك الطرير فتبتلية فيخلف ظنك الرجل الطرير
فانك عندما تبتلى وتمحص في جزئيات هذا الاكتشاف العلمي ستجد ان غالب أفكاره الأساسية مأخوذة (و أحيانا مختلسة بل مسروقة) من أبحاث علماء آخرين وهو ما سوف نبينه بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال . حيث ان السياق التاريخي يدلل على ان اغلب التركيب الكيميائي الأساسي لـ DNA كان معروفا بشكل كبير قبل الخمسينات من القرن الماضي. اما كنه وطبيعة التوزيع البنائي والتواجد الفراغي لهذه المكونات المعروفة فقط انطلق منذ الخمسينات سباق علمي محموم بين ثلاث معاهد بحثية في لندن و كاليفورنيا و كيمبردج لتحديده. لكن الشواهد تدل مرة أخرى على ان الأفكار الرئيسية في هذا المضمار أيضا لم تكن من بنات أفكار واطسون وزميلة كما سوف نبين لاحقا.
من جانب أخر وبغض النظر عن الإسهام العلمي الحقيقي لواطسون وكرك يمكن ان نستخلص و نستفيد من قصة السباق الأسطوري لاكتشاف مجاهيل الـ DNA ان عنصر الحماس والمثابرة في حد ذاته كثيرا ما ينتج اعظم الاكتشافات حتى وان كانت القدرة العلمية للمكتشف يشوبها بعض الضعف و التواضع. فعندما بدأ واطسون وزميلة أول أبحاثهما التجريبية على DNA في معهد كافندش بجامعة كيمبردج فشلا و اخفقا فحظر عليهما مدير المعهد الاستمرار في بحث لكنهما تجاهلا أوامره واستمرا بشتى الطرق الأخرى غير التجريبية. في بعض الأحيان يصعب علينا تقبل ان الأفكار المبدعة يمكن ان تأتى من أشخاص عاديين، لذا فلا بد ان نضفي على المكتشفين مظاهر البطولة والعبقرية المبالغ فيها. خذ مثلا على ذلك جائزة نوبل في العلوم فالكثير منا يتصور أنها لا يمكن ان تمنح الا للعباقرة، و الأمر ليس دائما كذلك فهي قد تمنح لمن أنجز تقدم او اكتشاف كبير قد يكون توصل اليه بصدفة مثلا حصل لمهندسين أمريكيين من شركة بل اكتشفا الأشعة الراديوية الكونية و من ثم نالا عن هذا الاكتشاف جائزة نوبل في الفيزياء و باعتراف أحدهما فان اكتشافهما كان بصدفة وان مستواه العلمي تقليدي لا يدل على النبوغ علمي او بحثي. وكمثال أخير من منا لا يعرف العالم الإسكتلندي الشهير الكسندر فلمنج مكتشف البنسلين العقار السحري او الدواء المعجزة كما أطلق علية في منتصف القرن الماضي و بالرغم من شهرة ونجومية فلمنج و اذا استثنينا (الصدفة) وقوة الملاحظة وبعض التجارب الأولية البسيطة التي أجراها هذا العالم لفصل المادة الفعالة من الفطر، فأننا سنجد ان جزاء كبير من شهرته المدوية ساهم في تحقيقها جيش من العلماء الذين عجلت أبحاثهم المرهقة بجعل البنسلين دواء فعال متوفر بكمية كبيرة ورخيصة للعلاج الطبي في مراكز الاستشفاء. بعض المصادر ترجح ان حوالي 49 مختبرا و ركز ابحاث ا أكاديمي وصناعي وحكومي تعاونت في مراحل مختلفة لعزل وتنقية وتثبيت والتعرف على التركيب الجزيئي للدواء و تصنيعه مختبريا و أخيرا إعادة تغيير تركيبة لتحسين خواصه العلاجية. لذا تلاحظ قارئ العزيز انة من التسطيح والسذاجة حصر نسبة هذا الاكتشاف التاريخي لدواء (سماه أحد ظرفاء الكيمياء بالقديس بنسلين لمعجزاته العلمية) لشخص واحد لملاحظة عابرة و ان كانت لعالم متيقظ و ذو ذهن لماح. وبمختصر العبارة بعض الاكتشافات العلمية الكبرى تضطرنا لتحويل المثل المشهور ليصبح : للهزيمة أب وحد أما النصر فله ألف أب !!
__________________
Galaxy
اكتشاف تركيب الـ DNA ... هل هو نصر لأب واحد ؟!!
خلال نصف القرن المنصرم يندر ان توجد مادة علمية تفوق أهمية لحظة اكتشاف تركيب جزيء DNA ومن ثم تكون جديرة بنصبها كرمز أو أيقونة تعبيرية للتقدم الكبيرفي دنيا العلوم. حقا لقد كان ذلك الحدث لحظة تاريخية محورية عندما أميط اللثام أخيرا عن خفايا تفاصيل كينونة جزيء الحياة المشهور باللولب المزدوج double helix ولعله هو ما وصفة ابن الفارض ببلاغة فذه و ان كان فاته ادراكه عندما قال:
وتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
في الواقع قله هي تلك الاكتشافات العلمية المفرده التي سرعان ما تقود الى تقدم وتطور حقيقي لمجالات علمية متشعبة، وان شئت دليلا على ذلك فراجع اثر اكتشاف تركيب الـ DNA قبل نصف قرن على حزمة الافرع العلمية المتنوعة ابتداء من الأحياء والكيمياء ومرورا بالطب والزراعة وانتهاءً بالصناعة والتقنية الحيوية و لعل من احدث ذلك وحدات المعالجة الالكترونية التي تستخدم شرائح الـ DNA الحاسوبية . و بالرغم من كل هذه الهالة والبريق لما وصف بأنة من اعظم الإنجازات العلمية في العصر الحديث وبالرغم من ان DNA مرتكز العديد من الأحداث العلمية المشاغبة والمثيرة للاهتمام الإعلامي مثل الاستنساخ والأغذية المعدلة وراثيا (الهندسة الوراثية ) ومشروع الخارطة البشرية (الجينوم) الا ان الغريب (والمقلق من جهه أخرى ) ان الاحتفالات العلمية و الأكاديمية في جميع أنحاء العالم بمناسبة مرور خمسين عاما على هذا الحدث العلمي البارز تكاد تمر دون تغطية إعلامية تذكر .من وجهة النظر العلمية فان المنتسب الى القطاع العلمي التطبيقي قد يصاب بخيبة أمل مريرة عندما يلاحظ ان وسائل الإعلام في هذه السنة بالذات في مقابل إهمالها لهذا الحدث العلمي الضخم فإنها قد اهتمت بالاحتفال باليوبيل الذهبي لأمور و أحداث اقل أهمية بكثير مثل مرور نصف قرن على أول تسلق لقمة إفرست او قيام الثورة الشيوعية في كوبا او اندلاع الحرب الكورية او تتويج الملكة اليزابث الثانية او حتى على الصعيد العربي مرور خمسون عاما على انطلاق إذاعة صوت العرب .على كلا هنالك اختبار آخر قريب لمدى شعبية الإنجازات العلمية الكبرى ، فان مر الاحتفال هذه السنة في شهر ديسمبر بمرور مائة عام على نجاح الأخوين رايت في تحقيق حلم الانسان القديم بالطيران ، فاذا مر هذا الحدث العلمي البارز دون تغطية إعلامية وافية، فعلى العلماء بدلا من إقامة الاحتفالات الأكاديمية الاستعراضية، ان ينظموا المجالس العلمية و ورش النقاش الطارئة لتدارس أسباب و أثار ضعف الاهتمام و السمعة الاجتماعية للعلم والتقنية لدى شرائح المجتمع.
على أكتاف العمالقة
لا يحتاج المرء لكثير فطنة ليدرك ان العالمين البريطاني فرانسيس كرك والامريكي جيمس واطسون الحاصلين على جائزة نوبل في الطب عام 1962 م و اللذان كانا أول من نشرا بحثا علميا في عام 1953 م يبين التركيب الصحيح لجزيء DNA ، قد اكتسبا شهرة طاغية ونجومية لامعة في دنيا العلم نضير ارتباط اسميهما بهذا الفتح العلمي المميز. فبالإضافة لحصولهما على ترتيب معقول في كتاب العلماء المخترعين المائة الأوائل الأكثر أثرا في تاريخ البشرية فقد حصل واطسن بالذات على موقع متقدم في الاستبيان الذي جرى حديثا على شبكة الإنترنت لتحديد اكثر الأفراد أثرا في تاريخ البشرية في جميع الميادين. فمثلا لقد عد واطسون من ضمن اكثر الأشخاص أثرا في العلوم (تجدر الإشارة الى ان رسولنا الكريم اعتلى وبجدارة مرة أخرى قائمة اكثر الأفراد اثرا في مجال الأديان ). لكن هناك جانب أخر في الواقع زاد من نجومية واطسون الا وهو تأليفه لكتاب The Double Helix الصادر عام 1968 تلك السيرة الذاتية التي ألهمت ودفعت آلاف الشبان للانخراط في سلك علوم الحياة حيث عبر العشرات من كبار الأساتذة والباحثين عن اثر كتاب واطسون في توجيه مسار حياتهم العملية والعلمية . و اذا كان الشيء بالشيء يذكر، فتجدر الإشارة الى ان واطسون اصدر الجزء الثاني من سيرته الذاتية في العام الماضي تحت عنوان (ما بعد اللوبي المزدوج) والذي خصصه للحديث عن حياته بعد اكتشافه التاريخي وفي هذه السيرة إشارات إضافية لشهرته ونجوميته بسبب مغامراته ونزقاته العاطفية .
ينقل عن العالم الشهير نيوتن قوله المتواضع انه اذا كان يستطيع النظر للأفق البعيد (كناية عن المقدرة على الفهم الأعمق للمعرفة) فما ذاك الا لانه يقف على أكتاف العمالقة . في واقع الأمر، العديد من الاكتشافات العلمية الحاسمة هي تطبيق عملي و حقيقي لمقولة نيوتن السابقة، فما كانت هذه الاكتشافات لتتم لولا التراكم الزمني للمعارف والخبرات المتنوعة. ولعل خير مثال على ذلك قصة اكتشاف الـ DNA التي نحن بصدد الحديث عنها، ففي عام 1953 م عندما نشر البحث الصغير المكون من ورقة واحدة فقط في مجلة الطبيعة Nature الشهيرة كان قله من المجتمع العلمي تعرف الشاب واطسون الذي كان في أوائل الثلاثينات وحصل قبل ثلاث سنوات فقط على الدكتورة في حين ان فرانسيس كراك كان أسوء حالا فهو مازال يدرس الدكتوراه والتى لن يحصل عليها الا في الـ 38 من عمرة بعد مشقة كبيرة جعلت مشرفه الأكاديمي يصفه بانه طالب الدراسات العليا (الورطة) الذي قد لا يستطيع إكمال أطروحته العلمية. واذا كان حال هذين النجمين كما ذكرنا فالسؤال الذي يطرح نفسه بكل براءة كيف تنسى لهما إنجاز هذا الاكتشاف العلمي الضخم الذي كثيرا ما وصف بانه اعظم اكتشاف في العصور الحديثة ؟؟.
انه الاختلاس ياغبي ..
بالرغم من الصورة النمطية الراسخة ان اي اكتشاف او اختراع علمي كبير يسبقه جهود مضنيه من التجارب وسهر الليالي والتبتل والانعزال في محراب العلم الا ان اكتشاف واطسون وكرك يبدو انه الشذوذ الذي يثبت القاعدة السابقة، فالبعض يجادل بأنهما لم يجريا اي تجربة علمية فعلية أهلتهما لهذا الاكتشاف الأسطوري، وان الأمر بمجملة لا يعدو أنها فقط افلحا في بيان ( ولك ان تقول تخمين وحدس ) التركيب البنائي الجزيئي لـ DNA اعتمادا على كم كبير من نتائج التجارب العلمية المتنوعة التي قام بها باحثون وعلماء من عدة قارات وباستخدام علوم مختلفة . فالمجاز الذي قصده نيوتن من الوقوف على أكتاف العمالقة اصبح حقيقة في حالة واطسون وشريكه عندما اعتمدا وبشكل شبة كلى على النتائج العلمية لتجارب الآخرين . فحالهما كما وصف السلمي عندما قال
ويعجبك الطرير فتبتلية فيخلف ظنك الرجل الطرير
فانك عندما تبتلى وتمحص في جزئيات هذا الاكتشاف العلمي ستجد ان غالب أفكاره الأساسية مأخوذة (و أحيانا مختلسة بل مسروقة) من أبحاث علماء آخرين وهو ما سوف نبينه بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال . حيث ان السياق التاريخي يدلل على ان اغلب التركيب الكيميائي الأساسي لـ DNA كان معروفا بشكل كبير قبل الخمسينات من القرن الماضي. اما كنه وطبيعة التوزيع البنائي والتواجد الفراغي لهذه المكونات المعروفة فقط انطلق منذ الخمسينات سباق علمي محموم بين ثلاث معاهد بحثية في لندن و كاليفورنيا و كيمبردج لتحديده. لكن الشواهد تدل مرة أخرى على ان الأفكار الرئيسية في هذا المضمار أيضا لم تكن من بنات أفكار واطسون وزميلة كما سوف نبين لاحقا.
من جانب أخر وبغض النظر عن الإسهام العلمي الحقيقي لواطسون وكرك يمكن ان نستخلص و نستفيد من قصة السباق الأسطوري لاكتشاف مجاهيل الـ DNA ان عنصر الحماس والمثابرة في حد ذاته كثيرا ما ينتج اعظم الاكتشافات حتى وان كانت القدرة العلمية للمكتشف يشوبها بعض الضعف و التواضع. فعندما بدأ واطسون وزميلة أول أبحاثهما التجريبية على DNA في معهد كافندش بجامعة كيمبردج فشلا و اخفقا فحظر عليهما مدير المعهد الاستمرار في بحث لكنهما تجاهلا أوامره واستمرا بشتى الطرق الأخرى غير التجريبية. في بعض الأحيان يصعب علينا تقبل ان الأفكار المبدعة يمكن ان تأتى من أشخاص عاديين، لذا فلا بد ان نضفي على المكتشفين مظاهر البطولة والعبقرية المبالغ فيها. خذ مثلا على ذلك جائزة نوبل في العلوم فالكثير منا يتصور أنها لا يمكن ان تمنح الا للعباقرة، و الأمر ليس دائما كذلك فهي قد تمنح لمن أنجز تقدم او اكتشاف كبير قد يكون توصل اليه بصدفة مثلا حصل لمهندسين أمريكيين من شركة بل اكتشفا الأشعة الراديوية الكونية و من ثم نالا عن هذا الاكتشاف جائزة نوبل في الفيزياء و باعتراف أحدهما فان اكتشافهما كان بصدفة وان مستواه العلمي تقليدي لا يدل على النبوغ علمي او بحثي. وكمثال أخير من منا لا يعرف العالم الإسكتلندي الشهير الكسندر فلمنج مكتشف البنسلين العقار السحري او الدواء المعجزة كما أطلق علية في منتصف القرن الماضي و بالرغم من شهرة ونجومية فلمنج و اذا استثنينا (الصدفة) وقوة الملاحظة وبعض التجارب الأولية البسيطة التي أجراها هذا العالم لفصل المادة الفعالة من الفطر، فأننا سنجد ان جزاء كبير من شهرته المدوية ساهم في تحقيقها جيش من العلماء الذين عجلت أبحاثهم المرهقة بجعل البنسلين دواء فعال متوفر بكمية كبيرة ورخيصة للعلاج الطبي في مراكز الاستشفاء. بعض المصادر ترجح ان حوالي 49 مختبرا و ركز ابحاث ا أكاديمي وصناعي وحكومي تعاونت في مراحل مختلفة لعزل وتنقية وتثبيت والتعرف على التركيب الجزيئي للدواء و تصنيعه مختبريا و أخيرا إعادة تغيير تركيبة لتحسين خواصه العلاجية. لذا تلاحظ قارئ العزيز انة من التسطيح والسذاجة حصر نسبة هذا الاكتشاف التاريخي لدواء (سماه أحد ظرفاء الكيمياء بالقديس بنسلين لمعجزاته العلمية) لشخص واحد لملاحظة عابرة و ان كانت لعالم متيقظ و ذو ذهن لماح. وبمختصر العبارة بعض الاكتشافات العلمية الكبرى تضطرنا لتحويل المثل المشهور ليصبح : للهزيمة أب وحد أما النصر فله ألف أب !!
__________________
Galaxy