سلسلة مقالات: مخلوقات كانت رجالا !!!!!!! د. أحمد خالد توفيق
مخلوقات كانت رجالاً (1)
مخلوقات كانت رجالاً (1)
لا يوجد ثقاب يا حضرات.. هذه هي الحقيقة المريعة التي أدركتها بعد البحث في عشرة أماكن، والسبب كما قال لي البقال هو أن سعره سيرتفع ليصير جنيهين إلا الربع للقاروصة بعد ما كان جنيهًا.[/size]
[size=16] كما تعرف تكفي أي إشاعة في مصر عن ارتفاع سعر شيء ما كي يختفي من علي ظهر البسيطة. قال لي البقال هامسًا: «هل تصدق أن المشابك الخشب اختفت كذلك ؟»!
لا أعرف أهمية المشابك الخشب ولست مستعدًا للغضب من أجل اختفائها.الثقاب شيء تافه، وهذه الزيادة لعب أطفال بالنسبة لما حدث للزيوت والمكرونة واللحم والبنزين، لكن هذه كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لي فرحت أردد:
«ربنا ياخدهم أو ياخدنا !!»
والبقال ينظر لي في دهشة من ذلك الطبيب الذي فقد أعصابه لأن سعر الثقاب ازداد خمسة وسبعين قرشًا. لابد أنه تساءل عن مدي شُح هؤلاء الأفندية.
لكن الثقاب ليس كل شيء بل هو آخر قائمة مرهقة من الأعباء التي تتضاعف يومًا بعد يوم وبسرعة لا تصدق بعد العلاوة إياها، حتي إن ذات البقال قال لي ذات يوم ساخرًا:
«سعر الزيت النهارده كذا.. أصل أسعارنا بتتغير كل يوم زي الصاغة !»
ربنا ياخدهم أو ياخدنا.. هذا حل عادل بالنسبة لي، والثقاب مهم لنا إذا أردنا أن نحرق أنفسنا فلماذا يختفي ؟..
ماذا يريد هؤلاء القوم منا ولماذا لا يتركوننا نحيا ؟... لماذا يصحون كل يوم من نومهم ليجعلوا الحياة أعقد ويتأكدوا من أننا نزلنا طبقة في السلم الاجتماعي ؟..
لماذا لا يكتفون ويرحلون بما سرقوه منا إلي جزر الكاريبي ليعيشوا كالملوك، ويتركوننا نحيا بما تبقي في هذا البلد ؟ .. وما الفارق بين أن تكون ثروة الواحد منه 20 ملياراً أو أن تكون 21 مليارًا ؟.
هم فقط يريدون أن يعتصروا الليمونة حتي آخر قطرة .. لن يركبوا الطائرات المتجهة إلي سويسرا قبل أن يتأكدوا من أن آخر موظف قد صار حافيًا وآخر طفل قد مات بسوء التغذية وآخر سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي تم ضخه لإسرائيل، عندها فقط يسافرون وينسون كل شيء عن مصر. .. ربما يظهر واحد منهم في التليفزيون السويسري ليتنهد ويقول: مصر أم الدنيا. .. واحشاني قوي...!
منذ أيام جاءني ذلك الشاب المصرفي المتأنق الذي أفرزه عصر الانفتاح بكثرة في مجتمعنا .. قميص قصير الكمين وربطة عنق ومن حزامه تتدلي عشرات الأجهزة المبهمة التي توحي بالأهمية، وكما يصف صنع الله إبراهيم هذا النمط فهو يستعمل طيلة الوقت لمحات من ثقافة غربية سطحية، وغالبًا يبيع الهواء. لابد من استعمال لفظة
CEO وSale وShare
في كل جملة تقريبًا. جاءني يقنعني بأن.أدفع ألف جنيه شهريًا لمدة ثلاثين عامًا وسوف أظفر في النهاية بمبلغ كذا !!
..نظرت له وابتسمت .. هل أنت واثق من أن مصرفك سيكون موجودًا بعد ثلاثين عامًا ؟... هل سأكون أنا موجودًا ؟ .. هل مصر نفسها ستكون موجودة إذا استمرينا بهذا المعدل ؟ لم يرد .. ضحك في عصبية وقال: «دي حاجة بتاعة ربنا بقي.. هيء هيء هيء..!»
المشكلة هي أنك قد تكون ميسور الحال نسبيًا، لكنك لا تضمن أي شيء من أي نوع. عرفت جراحين زملاء لا يكفون عن العمل والكسب، برغم هذا يشعرون بقلق مريع من الغد، ومن اليوم الذي قد يصيرون فيه عاجزين عن العمل، فالجراح مثل أي شخص آخر (شغال علي دراعه). مهما ادخروا في المصرف فمن الوارد أن يفيقوا ليكتشفوا أن ما ادخروه صار يساوي 31 جنيهًا لا أكثر، أو أن المصرف ذاته لم يعد له وجود البورصة ؟.. هذا مكان مناسب كي تفلس فيه، وسوف تدرك وقتها أنه ليس مكانًا للاعبين الصغار بل هو مكان لعب العمالقة الذين يخصصون مبلغًا لا بأس به للخسارة ..
من اشتروا عقارات صاروا عاجزين عن التصرف فيها بسبب الافتقار إلي السيولة.. أعرف أشخاصًا يملكون أراضي وشققًا لكنهم عاجزون عن بيعها رغم ارتفاع سعرها كل يوم.. من الممكن أن يجدوا من يدفع علي أقساط لكنك تعرف جيدًا أنه لن يدفع سوي قسط واحد ويكون عليك أن تلجأ للتقاضي وأن تقضي باقي حياتك في المحكمة ..
وماذا عن افتتاح مشاريع صغيرة ؟.. في شارعنا تجد في كل يوم مكبرات صوت ودي جي وتصوير فيديو وحلوي توزع، وقبلات علي الخدين وخيلاً ترقص مع افتتاح محل جديد.
ثم تجلس في المحل فتاة شاحبة سيئة التغذية بالشبشب الزنوبة تنتظر أي زبون.. بعد شهرين يُغلق هذا المحل بسبب الكساد وتبدأ الدورة من جديد. الدورة التي لم يستفد منها سوي مصور الفيديو والدي جي..
أتكلم هنا بالطبع عن الأشخاص الذين يكسبون نسبيًا، ولديهم رأسمال صغير يريدون. أن يضعوه في شيء مضمون، فماذا عن
الذين يعيشون من اليد إلي الفم وهم يتزايدون كل يوم ؟
كنت أمر جوار طابور من طوابير الخبز، عندما رأيت ذلك الرجل الأصلع ممزق الجلباب ذا الستين عامًا يخرج من الطابور بولادة عسرة حقيقية .. فمه مفتوح في لهفة والعرق يبلل جبينه وهو يحتضن كومة من أرغفة الخبز في حنان ووله حقيقيين.. صورة مجسدة للخلاص والفرحة والظفر ..
رأيته يتوقف إلي جوار الرصيف لحظة ليتأمل جيدًا في روعة ما حققه، وفي اللحظة التالية رأيت علي دراجة ذلك الصبي. الذي تشي ثيابه بأنه حرفي، ينقض علي الرجل ليخطف بضعة أرغفة من الكومة وينطلق مبتعدًا بسرعة البرق. في ثوان تحول وجه الرجل إلي الحسرة المجسمة ودموع الغيظ احتشدت في عينيه لكنه صار عاجزًا عن الغضب أو السباب .. شيء ما في عينيه يشي بأنه فقد إنسانيته فلم تبق لديه من عاطفة إلا الجوع والظمأ...
قلت لنفسي: الحمد لله أنني لست المسئول المباشر عن هذا الرجل ولا الفتي السارق.
برغم هذا كل واحد فينا مسئول .. يجب أن تتذكر هذا وأنت تدخل فراشك ليلاً..
خطر في ذهني عمنا «مكسيم جوركي» وما كان سيكتبه لو رأي هذا المشهد. بطبيعة الحال كان أقدر علي رؤية هذه التفاصيل، وقد قرأت له منذ زمن سحيق مجموعة قصصية رائعة اسمها (مخلوقات كانت رجالاً.) ترجمة (سعد توفيق) تحكي عن مجموعة من النماذج البشرية التي (أكل عليها الدهر وشرب وقضي حاجته)- علي رأي بلال فضل الذي أفتقده كثيرًا- وهذه النماذج تعيش كلها في مسكن رخيص الثمن شديد القذارة أقام فيه الكاتب لفترة ما من فترات شبابه الصاخبة. بالفعل هي مخلوقات كانت رجالاً وكان يمكن أن تحصل منها علي نفع أكبر بكثير من الوقوف ساعات في طوابير الخبز أو سرقته.
قررت أن أكتب في الأسابيع القادمة عن هذه المخلوقات التي كانت رجالاً في عالمنا هذا، والتي أفقدها الفقر الكثير من إنسانيتها.. أكتب عنها لأنني لا أملك أن أقدم لها شيئًا آخر...
وللحديث بقية.