طعنة قتلت شباب جدتي
عند شرفة البيت القديم تحتضر الكلمات... تختنق الانفاس ...ويحيا الاموات ...في الحي المقدسي القديم ...ها انا استرجع كل الذكريات ...وبتلك الخطوط الشاحبة التي تملؤ وجه جدتي العجوز تختبئ الاف الحكايات.
عذاب تحمله حنايا عينيها... ولسانها يعجز عن ذكره ... دمار، قتل،هدم منازل،اغتصاب، وكل ما لا يخطر ببال أحد...هكذا كانت تقول لي دائما في غبرة الحزن العميق.
وها هو اليوم 15\5\1948 ذكرى النكبة، وبعد عودتي من المدرسة وهي جالسة على مقعدها الخشبي الذي حملته معها من بيتها القديم ،أخبرتها اننا سنحنفل بالمدرسة في ذكرى النكبة وما أن اكملت هذه الجملة حتى أخذت الدموع تخنق أنفاسها وتضطرب حنجرتها عاجزة عن الكلام الا من كلمه واحدة، قالتها وهي تحمل حقد العالم أجمع "تحتفلون"بماذا؟ بنبيذ ارواح اهلنا ...بجراح الامهات الثكلى أو بأنفاس الاطفال القتلى....وصمتت.
أخذت أحاول ان اقتحم وحدة جدتي وأسرق منها بعض الافكار التي تحياها كل يوم في عالمها المجهول لي، طالبا منها أن تخبرني أين تذهب كل يوم في ذاكرتها وتعود حزينة كئيبة تحمل غيوما سوداء في عينيها، وبعد فترة وجيزة من الحاحي استيقظت جدتي من غفلة العمر المرير،
وأخذت تستجيب لطلبي المّلح في اخباري عن يوم اقتحام الجيش الاسرائيلي لمدينة يافا وبدأت تروي القصة، وقالت:
فوزية... الفتاة ذات السبعة عشر عاما، طويلة بيضاء باسقة، عيناها سوداوان كالطيور الجارحة، شعرها أسود طويل يحمل في طياته ملامح عربية شرقية راقية، حملت على جبينها عبء الاحتلال عبء الفلاحة والحياة القاسية، شرف الأسرة الفلسطينية والعزة الأبية.... فوزية وطالما نظر اليها شبان حي المنشية .
كانت تبوح بهذه الكلمات وسط غصة والم عميق ،وقطعت عليها هذا الكلام وسألتها من فوزية ياجدتي؟ نظرت الي وقالت :فوزبة حكاية العمر وسر الحياة .... وبدأت :
منذ زمن طويل منذ ذلك العام المرير عام النكبة ، ولا أذكر في أي يوم في العاشر أم الثالث عشر أم الخامس عشر من أيار، فقد اختلطت التواريخ وتشابكت الأيام واحتار الناس في الثواني والساعات وسقطت البلاد.
وفي حي المنشية وليس ببعيد عن الشاطئ، كنت أسير حاملة بين ضلعي رضيعي "حسن" الذي أنجبته بعد وفاة جدك بشهر واحد ،كنت مسرعة في الذهاب الى البيت خوف القصف والرصاص ولصعوبة الطريق اختبأت في مكان قريب ،وأخذت أنظر من ثقب يطل على بيت.
فوزية....!
مابها انها تبكي متوسلة رجالا مخيفين، نعم، انهم من الهجاناة، وها هو أحمد ذو الرابعة عشر ومحمود ابن الثانية عشر ومأمون ابن العاشرة انهم يقفون على الجدار أمامي غير قادرين على الحراك ،أخذت أسائل نفسي ما بهم...؟!
وما هي الا لحظات حتى أمسك أحد أفراد الهجاناة بفوزية مهددا اياها :"ان أصدرت أي صوت سوف أقتل أحد اخوتك " كل صوت من فوزية مقابل روح أخ لها ، أهو خائف أم أنه يعذبها حتى حرمها حقها في الألم في الوجع في الصراخ والدفاع عن نفسها، وها هو يحاول الاعتداء عليها وهي تتوسل اليه ألايفعل، ويرفع السلاح في وجه أخيها وتصرخ وتصرخ فوزية ...... وصمتت... وصمتت هي وصرخت طلقة الرصاص التي اخترقت عنق أخيها أحمد، ولطخت الدماء الطاهره أرجاء المكان .....وطعنة في صدري ...مات أحمد ياويلي ...وياعذابي ... وهاهي طعنة أخرى تقتلني محمود ......وصل الألم حد الاختناق ، وفوزية لاتقوي على الحراك وبوحشية الاحتلال ودناءته اغتصبت فوزية وحولها ثلاث ضحايا هم أغلى ما تملك في حياتها ،
أخذت فوزية تنظر اليهم وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة معتذرة منهم ،معتذرة لأرواحهم الطاهرة البرية.
خرجوا من المكان ،وأغلق الباب على أرواح الضحايا، ثلاثة من الأطفال وشابة أسيرة كسيرة كسمكة على شاطئ البحر مرمية ،تصارع الحياة ...تصارع الموت، وأخيرا ،هربت فوزية من ظلمة الاحتلال الى ظلمة الموت ...... وماتت فوزية .
عندها كان لساني قد شل وعيناي لا تقويا على النظر وصوتي اختنق بداخلي ،حاولت الصراخ وبعد جهد أخذت أصرخ حاملة في قلبي حقد العالم أجمع مستنشدة الله العون وبملئ الصوت صرخت فوزييييه....فوزية ...فو...فو...زية ...أحمد ....محمود....مأمون ...كلهم قتلى كلهم موتى، ولا شيئ سوى الدماء من حولهم ....... وصمتت.
"بحقد وألم"،جدتي مسكينة فوزية ، اسمها كاسم عمتي ،نظرت جدتي اليّ ودموعها وصلت الى قدميها ،والألم يحتل كل أجزاء جسدها ،نظرت اليّ وهمست :هي عمتك ياأحمد ،وهذا الاسم الذي تحمله اسم عمك الذي قتل مع الباقين ،فطالما علمت أن أباك "حسن"وحيد وعمتك ماتت بحادث سير ،هي عمتك فوزية ياأحمد لكن لا تخبر أحدا.....!!
هذه القصة الأولى التي أكتبها
أرجو أن تنال اعجابكم