(الأولة)، في شأن الأمراض، أن التعامل العلاجي مع حالات نقص توفر مواد معينة في الجسم، يكون بتعويض ذلك النقص عبر تناول دواء أو غذاء يحتوي عليها.
و(التانية)، أنه كلما كانت وسيلة المعالجة، دوائية أو غيرها، لحالة مرضية ما، متطابقة أو قريبة مع ما يقوم به الجسم نفسه للتخفيف من شدّة تلك الحالة المرضية أو القضاء عليها، كانت وسيلة المعالجة تلك أكثر فائدة.
و(التالتة)، كلنا يعلم أن الأطباء يصفون للكثير من المرضى تناول الأسبرين، وهذا الأسبرين، بعد دخوله إلى الجسم، يتم تحويله إلى مُركّب «حمض السليسليت» salicylic acid، وهو المركب الفاعل الذي يقوم بإحداث التأثيرات العلاجية الإيجابية للأسبرين.
القصة تبدأ بعد هذا، إذ يقول الباحثون من المملكة المتحدة إن ثمة أدلة جديدة على قدرة جسم الإنسان، والحيوان، على إنتاج كميات كافية للجسم من مُركّب «حمض السليسليت»، وذلك متى ما توفرت له «المواد الخام» اللازمة لإنتاج ذلك المُركّب.
وفي دراستها الأخيرة، المنشورة بعدد أواخر ديسمبر الماضي من مجلة كيمياء الغذاء والزراعة الأميركية، ذكّرتنا الدكتورة غوندولين باكستر بما سبق أن توصلت إليه حول ثبوت وجود مُركّب «حمض السليسليت» في دم الأشخاص الذين لا يتناولون بالأصل أقراص الأسبرين الدوائية.
وأن الأشخاص الذين يُكثرون من تناول الخضار والفواكه، وخاصة «النباتيين» في تغذيتهم، لديهم في أجسامهم كمية من مُركّب «حمض السليسليت» توازي تلك الكمية التي توجد في جسم الإنسان العادي بعد تناوله لأقراص «بيبي» أسبرين، أي أقراص الأسبرين المتدنية المحتوى منه (وليس المخصصة للأطفال)، إذْ من المعلوم أن الأطفال ما دون سن 12 عليهم عدم تناول الأسبرين.
واستنتجت الباحثة آنذاك، أن هذا «الأسبرين»، الموجود في جسم منْ لا يتناولون أقراص الأسبرين، إنما أتى مما تحتوي عليه الفواكه والخضار من مُركّب «حمض السليسليت».
وعلى هذه الفرضية «نام» الباحثون ليلتهم تلك.
ولأن ما «ننام» عليه ليس بالضرورة هو ما «نستيقظ» عليه، فإن الباحثين البريطانيين أنفسهم يتحدثون اليوم عمّا يزيد الدهشة حول ما يُمكن لجسم الإنسان صناعته من مركبات كيميائية.
ومفاد ما أضافوه أخيرا، هو أن جسم الإنسان الطبيعي لديه قدرة على «صناعة الأسبرين»، مما يُضيف مصدرا آخر، أي غير الغذاء النباتي، لتعليل وجود الأسبرين في أجسامنا حينما لا نتناول أقراصه الدوائية.
وهذا الإنتاج الذاتي لمُركّب «حمض السليسليت»، والمسؤول عن تخفيف الألم وخفض مستوى نشاط عمليات الالتهابات في الجسم، وتدني فُرص ترسّب الصفائح الدموية على بعضها البعض داخل الشرايين، ربما يُمثل فئة جديدة من المركّبات الكيميائية الحيوية ذات الفاعلية في تنظيم وضبط ما يجري داخل الجسم bioregulators، وفق ما قاله الباحثون البريطانيون.
والطريقة التي تمكن من خلالها الباحثون إثبات قدرة الجسم على صناعة مُركّب «حمض السليسليت» كانت بتناول مجموعة من الناس العاديين لمادة «حمض البنزويك»، وهي مادة طبيعية متوفرة في الخضار والفواكه، وقياس تأثيرها على مدى وجود هذا المُركّب للأسبرين في أجسامهم.
وما ثبت للباحثين هو أن ثمة علاقة طردية في الأمر، أي كلما زاد تناول المرء لـ «حمض البنزويك» النباتي، كلما ارتفع مستوى «حمض السليسليت» في جسمه.
وإنتاج أجسامنا لمركّب الأسبرين الفاعل، يُذكّرنا بما ثبت حول أسباب إنتاج النباتات بالأصل للأسبرين ومركبات علاجية أخرى.
ومعلوم أن البشر على مر العصور لجأوا إلى النباتات للحصول على عقاقير دوائية تشفيهم من الأمراض التي تُلم بهم. والبشر تعرفوا على الأسبرين منذ آلاف السنين، ووصفه الأطباء الإغريق قديما، كمستخلص من لحاء أشجار الصفصاف، لتخفيف الألم وخفض ارتفاع الحمّى.
وأكد الباحثون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر أن مستخلص لحاء أشجار الصفصاف إنما هو مادة «حمض السليسليت».
ولأن المادة الحمضية هذه شديدة الوطأة على المعدة والجسم، إذا ما تم تناولها بصفة مباشرة، تمكن العلماء الفرنسيون والألمان من إنتاج مُركب كيميائي منها ذي صفة «خفيفة» على المعدة. وكان أن ظهر الأسبرين منذ ذلك الحين.
المهم في جانب إنتاج النباتات للأسبرين ليس هذا، فهي لا تُنتجه بالأصل من أجل «سواد عيون» البشر، بل هي تنتجه لأنها محتاجة إلى وجوده في «جسم النبتة» بذاتها.
وكان الباحثون من المركز القومي الأميركي لأبحاث المناخ في الولايات المتحدة قد توصلوا في سبتمبر الماضي إلى أن أشجار الجوز، «عين الجمل»، تصنع داخلها كميات من مركبات الأسبرين كي تُخفف عن نفسها توتر وإجهاد تعرضها للظروف المناخية الصعبة.
وفي أكتوبر عام 2007 نشرت مجلة «ساينس» نتائج الباحثين من جامعة كورنيل في نيويورك حول التأثيرات الإيجابية لإنتاج النباتات لمواد مشتقات الأسبرين، وذلك لرفع مستوى جهاز مناعة النباتات وقدرتها على مقاومة ما يعتريها من تضرر.
واللافت للنظر في هذا الأمر، ما قاله الباحثون حول ارتفاع نسبة هذه المواد في الأجزاء المتضررة من الشجرة، مقارنة بالأجزاء السليمة منها، وأن إنتاجها يرتفع في أجزاء النبات القريبة من التي قضمتها الحيوانات للتو، أثناء رعيها!
وعلل الباحثون ذلك بمحاولة النبات تخفيف «ألمه» والإسراع في «التئام» تلك الجروح التي أصابته. والمادة التي تحدثوا عنها هي «ميثايل سليسليت».
وكانت دراسات سابقة، تمت فيما بين عام 2003 و2005، قد تحدثت عن قدرة النباتات على تحويل مادة «ميثايل سليسليت» الخاملة إلى «حمض السليسليت» النشطة والفاعلة.
والعبرة، أن جسم الإنسان لديه القدرة على إنتاج مواد مفيدة لصحته حينما يتناول الواحد منا أغذية صحية متنوعة، وخاصة من الخضار والفواكه الطازجة.