اعذُريني يا غزّةُ .. واعذُرينا ..
سوفَ نكتُبُ .. لا لِنَستدرَّ عطفَكُم، ولا لِنَسْتَجْدِيَ دُموعَكُم، فقد أضحتِ الدّماءُ في عصرِنا ماءً .. هل كَذَبَتْ أمّي حينَ قالتْ : لن يصيرَ الدّمُ ماءً ؟!
سوفَ أكتُبُ .. لأجلِ غزّةَ .. أرضِ العزّةِ، لأجلِ أهلِها .. يا ليتني يا غزّةُ .. حبّةُ رملٍ في تُرابِكِ، أو حَجَرٌ يعلوصخورَكِ .. أو أصغرُ طفلٍ بينَ أبنائِكِ .. أحملُ الحجرَ أضربُ جنديًّا .. أنثرُ في عينيهِ رملاً .. تخترقُ جسدي رصاصةٌ، أرتمي فوقَ ترابِكِ، تروي دمائي أرضَكِ .. ها أنذا في عينيكِ يا غزّةُ ابنٌ محبٌّ لكِ، تحتويني في أحضانِكِ .. وفي عيونِ العالَمِ .. رقمٌ جديدٌ لطفل ٍغبيٍّ رمى بنفسِهِ فداءً لوطنِه .. أو بذرةٌ تخلَّصَ العالَمُ منها قبل أن تُصبحَ ذاتَ يومٍ ثمرةَ إرهابٍ ! حالي كحالِ عشراتِ الأطفالِ .. إيمانَ، محمّدٍ، أميرةَ .. وغيرهم كثير ..
نعم .. كلُّنا في غزّةَ أرقامٌ، فاليوم أحياءٌ وغداً تحتَ التّرابِ أمواتٌ، فمن يسأل ؟! حينَ يُقتَلُ جنديّ ٌإسرائيليٌّ ينشرُ الإعلامُ صورتَه ونبذةً عنه، وحينَ يُقتلُ طفلٌ فلسطينيٌّ، يقول ُالإعلامُ : قُتِلَ إرهابيٌّ، ويُصبحُ في التّاريخِ رقماً .. أهانت أرواحُنا عليكم ؟! والله ما هُنتُم علينا، نحسِبُ فيكُم خيرًا فلا تخذلونا ..
عددُ الشّهداءِ في ازديادٍ، وكذبةُ الهدنةِ سيفٌ على رقابنا، وخدعةُ الحوارِ خنجرٌ يُمزِّقُ صدورَنا، ولا تزالُ الأمّةُ تُلقي اللومَ علينا ؟! وعلى أجسادنا أثرُ تعذيبٍ، وجدرانُ السّجون تذكُرُ أسماءنا، وتحتَ التّرابِ ترقُدُ أطرافُنا ؟! يُحاكموننا على بندُقيّةٍ مصوّبةٍ إلى صدورِنا، وما ذنبُنا إن قُتِلنا بها ؟!
تآمرَت عليكِ ياغزّةُ الأمَمُ، فحاصركِ بنو يهودٍ، منعوا عنكِ الطّعامَ والدّواءَ والوقودَ، وبرقيّةَ عيدٍ أرسلوا إليكِ، محمّلةً بقنابلَ وقذائفَ تأتيكِ وقتَ الفجرِ .. افرحي يا غزّةُ لا يزالون يذكرونكِ !! ولكن .. حُكِمَ عليكِ بدفْعِ الثّمنِ!!
أسَرَ أبناءَكِ أبناءُ جلدتِنا،فرّقوا النّاسَ فهذا يعملُ بلا راتبٍ، وهذا يقبضُ راتباً بلا عملٍ، كلُّ هذا على خلفيّةِ انتمائِهم السّياسيِّ .. قتلوهم لأنّ كلمةَ التّوحيدِ تردّدتْ في حناجرِهم، أسروهم لأنّ تحريرَ فلسطينَ غايةٌ في حياتِهم، طاردوهم لأنّ لحاهم غطّت وجوهَهم ..
ولم يتوقّفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ فقط، بلتجاوزَ كلَّ الحدودِ حتّى أصبحَ دورُ الحكوماتِ العربيّةِ وغيرِهم أهمَّ بكثيرٍ من أدوارِ الصّهاينةِ والخَوَنةِ والعُملاءِ، فإسرائيلُ مثلاً، خضعتْ أمامَ سُفُنِ كسرِ الحصارِ ولم تستطِعْ الوقوفَ أمامَها وسمحتْ لهم بالوصولِ إلى غزّةَ، أمّا مِصْرُ .. فمنعتْ البرلمانيّين من دخول غزّةَ، لعلّها رأتْ أنّ توجّهَهم إلى قبرصَ ومن ثَمَّ الذّهابُ إلى غزّةَ عن طريقِ سفينةٍ من سُفُنِ كسرِ الحصارِ .. أفضلَ وأقربَ وأسرَعَ ! إسرائيلُ فتحتْ بعضَ المعابرِ بشكلٍ استثنائيٍ لأوقاتٍ معلومةٍ، أمّا مِصْرُ .. فخصّصتْ من قوّاتِها العسكريّةِ لحمايةِ معبَرِ رفحَ من الفلسطينيّين ! باللهِ عليكُم .. مَن مزّقَ جثَثَ الشّهداءِ ؟! من قتَلَ النّساءَ والشّيوخَ والأطفالَ؟! من شرّدَ العائلاتِ الفلسطينيّةَ ؟! من قتلَ المرضى الذين ضاقتْ بهمُ السّبلُ، فلا دواءَ يسكّنُ آلامَهم، ولا كهرباءَ لتشغيلِ الأجهزةِ التي تربِطُ أجسادَهم بالحياةِ ..
اعذُريني يا غزّةُ .. أصبحنا الآن جُثَثاً لا تزالُ على قيدِ الحياةِ، فمن يسألُ إن دُفِنَتْ هذه الجُثَثُ تحتَ التّرابِ ؟! ومن يسألُ إن غدَوْتِ يا غزّةُ مقبرةَ الشّهداءِ ؟! اعتادَ العالمُ ذرفَ الدّموعِ على أطلالِ قبورِنا، يغسلونَ يا غزّةُ بدمعةٍ دماءَنا .. حتّى أصبحتْ دِماؤنا يا غزّةُ ماءً .. أَكَذَبْتِ يا أمِّي عليّ حينَ قُلتِ لن يصيرَ الدّمُ ماءً؟!
اعذُريني يا غزّةُ .. واعذُرينا ..