بين الحقيقة والخيال
في أفلام الخيال العلمي القديمة، كنا نفغر أفواهنا مبهورين، عندما يقرِّر قائد سفينة الفضاء الضخمة، نقل أحد أفراد طاقمه إلى مكان آخر، فيوقفه داخل أسطوانة وهمية، ويهبط عليه من أعلاها شعاع ناقل، فيختفي، ليظهر فوراً، في محطة الوصول..
في أفلام الخيال العلمي القديمة، كنا نفغر أفواهنا مبهورين، عندما يقرِّر قائد سفينة الفضاء الضخمة، نقل أحد أفراد طاقمه إلى مكان آخر، فيوقفه داخل أسطوانة وهمية، ويهبط عليه من أعلاها شعاع ناقل، فيختفي، ليظهر فوراً، في محطة الوصول..
كلنا رأينا هذا..
وكلنا انبهرنا به..
أما العلماء، فلم يكتفوا بالانبهار..
لقد درسوا الفكرة، وناقشوها، وطرحوا سؤالهم الشهير، الذي يعد دوماً أول الخيط، في طريق التقدم العلمي..
أهذا ممكن؟!..
فما نراه نحن مجرد خيال، يتوقفون هم أمامه طويلاً، ويحاولون ربطه بعدد من النظريات العلمية المعروفة، أو ابتكار نظريات جديدة غير معروفة، يمكن أن تتوافق معه..
ولأن هناك بعض الدول التي لا تتردَّد في رصد ميزانيات ضخمة للبحث العلمي، حتى ولو كان حول فكرة ظاهرة الخيال، فقد وجدت مجموعة من العلماء نفسها أمام مشروع بحثي كبير، أطلق عليه اسم (الانتقال الآني)..
والمصطلح يعني انتقال الأجسام والأجساد، من مكان إلى آخر، عبر مسافات شاسعة، في التو واللحظة..
أو بمعنى أكثر بساطة، الانتقال الآن وفوراً، من بقعة إلى أخرى، مهما بلغت المسافة بين البقعتين..
والفكرة تبدو للوهلة الأولى خيالية أكثر من اللازم، لو نظرنا إليها من خلال عالم ثلاثي الأبعاد..
ولكن ماذا عن عالمنا رباعي الأبعاد؟!
فعلمياً، ووفقاً لنظرية "ألبرت أينشتين" التي حصل بسببها على جائزة "نوبل"، عام 1915م، يتكون عالمنا من الأبعاد الثلاثة الأساسية.. الطول، والعرض، والعمق، بالإضافة إلى البعد الرابع، وهو الزمن..
والزمن، كما يقول "أينشتين" نسبي تماماً، ويمكننا أن نتحرَّك فيه في كل الاتجاهات، أماماً وخلفاً، و..
وربما عمقاً أيضاً..
وعبر فكرة الانتقال "الزمكاني" العمقي، وجد العلماء أن الانتقال الآني ليس خيالاً محضاً..
إنه حقيقة علمية..
حقيقة لم يحسمها الزمن بعد..
ومن هنا، بدأ مشروعهم العملاق، في منتصف سبعينيات القرن العشرين..
في البداية، حاولوا صنع الجهاز، القادر على تفكيك ذرات أي جسم، ونقلها عبر الهواء، أو عبر وسيط آخر من نقطة الانطلاق، إلى نقطة الهبوط..
أياً كانت المسافة بينهما..
واستغرق هذا سنوات..
وسنوات..
وسنوات..
وعبر كل تلك السنوات، لم تتوقف تجارب العلماء لحظة واحدة..
وفي النصف الأوَّل من تسعينيات القرن العشرين، أي بعد ما يقرب من عشرين عاماً، تمت أول تجربة ناجحة، في مجال الانتقال الآني..
قطعة صغيرة من النحاس، في حجم عملة بسيطة، نجح العلماء في نقلها، من حجرة إلى أخرى مجاورة، خلال لحظة واحدة، وعبر أنبوب من الألياف الزجاجية، مفرَّغ من الهواء تماماً..
ويومها، تنفس العلماء الصعداء..
فنجاح تلك التجربة البسيطة، كان يعني أن نظرياتهم صحيحة..
وأن الفكرة قابلة للتطبيق..
وكما يحدث دوماً، في تاريخ العلم، ما أن يلتقط العلماء طرف الخيط، حتى تتزايد سرعتهم بحركة تصاعدية ممتدة..
لذا، ففي 1996م، نجحت أول تجربة في نقل عملة من البرونز، بكل ما عليها من نقوش ورسوم، عبر مبنى كامل، من خلال الأنابيب المجوَّفة، خالية الهواء..
في البداية، كانت العملة تنتقل مشوَّهة، أو معكوسة!!، ولكنها في تلك التجربة، ولأوَّل مرة، انتقلت سليمة..
وكان هذا أفضل ما حققه العلماء، في مشروع الانتقال الآني..
حتى هذه اللحظة..
فكل تطوير لذلك النجاح الأوَّلي، باء بفشل ذريع..
كل محاولات نقل أجسام مركبة، انتهت بكارثة، إذ أن أجزاء الجسم المنقول تتداخل وتتشابك، أو تتحوَّل إلى كتل معدنية غير متمِّيزة..
وهذا أوصل العلماء إلى حقيقة واحدة..
الانتقال الآني ناجح فقط بالنسبة للأجسام البسيطة، المصنوعة من معدن أو خامة واحدة..
نقل الآلات مستحيل!..
ونقل الكائنات الحية غير وارد..
على الأقل في زمننا هذا..
ولكن العلماء لا يتوقفون..
ولا يستسلمون..
فقد كسروا القانون بقانون جديد، ولن يتوقفوا، حتى يضعوا قواعد قانونهم الجديد، خاصة وأن أخطاء تجاربهم قد قادتهم إلى كشف أكثر إبهاراً..
أكثر بكثير..
الموضوع بقلم د. نبيل فاروق