مذكرات صهيوني 2

د.أحمد خالد توفيق


كم أحب طائرتي الفانتوم!

كفاءة هذه الطائرة عالية حقا..القمرة مريحة..ثمة أجهزة استشعار تنذرك بإطلاق صاروخ نحو الطائرة..دقة عالية في إصابة الأهداف..إلخ..هذا هو الترف الأمريكي الحق..


نخرق سرعة الصوت فوق سيناء متجهين إلى العمق المصري..


في تلك الأيام السعيدة قبل استكمال حائط الصواريخ السوفييتي الرهيب كانت سماء مصر مفتوحة بالكامل لنا..كان بوسعنا الذهاب إلى أي مكان نريده ولم تكن طائرات الميج المصرية قادرة على ملاحقتنا..إنها متخلفة عنا بجيلين على الأقل..فيما بعد حين وضعت شبكة الصواريخ المخيفة صارت سماء مصر كلها محرمة علينا..لم تعد الذبابة قادرة على اختراق المجال الجوي المصري..حاولنا كثيرا منع المصريين من إنشاء هذا الجدار لكنهم استبسلوا..نعم.. أعترف أن هؤلاء القوم حين يريدون شيئا يحصلون عليه..


وهكذا جاء أسبوع الفانتوم الشهير حين راحت طائراتنا تتساقط كالذباب وصدر أمر يمنع اختراق العمق المصري..


أنظر إلى الطائرات الصديقة المحيطة بي..تشكيلي الذي أعرفه وجها وجها..لقد خضنا ساعات تدريب طويلة ونعرف أن هذه المهمة بسيطة لكننا ندرك أيضا أن الخطأ سيكون فادحا..


نعبر قناة السويس..


مدفعية مضادة للطائرات تطلق علينا من حافة القناة لكنها تنفجر قبل أن تقترب منا..هذه هي مصر كما رأيتها مرارا عديدة من قبل..أحفظ كل شبر منها..


الهرم الذي بناه أجدادي.. المصريون يزعمون أنهم من بنوه لكننا نؤمن بما قاله لنا آباؤنا..الهرم ملكية يهودية وسيأتي اليوم الذي نطالب به..يمكن كذلك أن نشكك في أنهم صنعوه بطرق أكثر مراوغة..نتحدث عن الفضائيين الذين جاؤوا من كوكب آخر ليبنوا الهرم..هم سيلتقطون الخيط بحماقة ويرددونه لما فيه من إثارة..قل أي شيء المهم ألا يقتنع المصريون بأنهم قادرون على معجزة مثل بناء الهرم..خذ منهم ماضيهم وأعطهم حاضرا تعسا ومستقبلا غامضا..


هذا هو النيل..شريان حياة مصر.. الفراعنة الذين عاملونا بغلظة و استعبدونا..الشخصية اليهودية لها مزية هامة هي أن الزمن لا يلعب معها أي دور..إنها تنتقم من جريمة ارتكبت ضدها منذ قرون ولاتنسى ما حدث..في أعماقي حصار بابل و قلعة ماسادا ودبابات النازي في وارسو..


لكن الأمور اختلفت اليوم..اليوم لن نعذًّب بل سنعذٍّب.. لن نخاف بل سنخيف.. لن نقتَل بل نقتُل..


هذه هي معالم البلدة..محافظة الشرقية كما يقول المصريون..
الريف الهادئ المسالم من تحتنا..مربعات خضراء تنتظر لمسة من النيران..نحن (الفالكيري) القادمون من السماء لنحيل الأرض نارا..(فاجنر)وصف بموسيقاه كيف تنقض بنات (أودين) أو الفالكيري من السماء ليخطفن الأرواح إلى (فالهالا)..نحن نكره فاجنر لأن النازيين أحبوه..لكن لا ننكر أنه عبقري في هذه المقطوعة بالذات..


هذه هي القرية..
هذه هي المدرسة..
بناية متداعية فقيرة لو تركتها عشر سنوات أخرى لسقطت وحدها..رباه!كم هم فقراء هؤلاء المصريون!


لابد أن الأطفال في درسهم الأول الآن..أنا أشعر بالجوع فلم ألتهم إلا قطعة بسكويت قبل بدء المهمة لكني سأنتهي سريعا ولسوف يكون إفطارا شهيا بحق..أشهى إفطار في العالم هو ما تتناوله بعد القتل..


الطائرة القاذفة تتقدم وتلقي حمولتها من حالق..
ترى هل شعروا؟هل رأوها وهي تقذف؟
لاأعرف..لكن دور الطائرة التالية جاء..
المزيد من القنابل يهوي فوق البناية..
زهرة اللهب تشتعل..تتوهج..
الدخان يعلو لكبد السماء..


أقرب فمي من الميكروفون وأطلب عمواس في طائرته: مهمة ناجحة..يكفي هذا..لانريد أن تتبخر البناية..


وتتلاقى طائرات التشكيل وتدور حول القرية ثم ننطلق عائدين لإسرائيل..


فيما بعد سوف يملأ المصريون الدنيا صراخا..ثلاثون تلميذا في المرحلة الابتدائية هلكوا.. كانوا يجلسون في الصف الدراسي في مدرسة بحر البقر..سوف تنهال برقيات الاحتجاج والإدانة..كل العالم سيبكي بعينين ذاهلتين ما حدث..والحقيقة أن هذا كل شيء..فعلا كل شيء..الكل يقبل الأمر الواقع وحقائق القوة..في النهاية تمت الغارة وانتهت..ونسي العالم الأمر برمته..لقد نسوا إلقاء قنبلة ذرية على مدينة كاملة فلماذا لا ينسون هذا؟


الحقيقة في هذا العالم:لا يوجد عقاب على جرائم الحرب..لاأحد يعاقب إلا إذا أراد الكبار عقابه..


سوف يزعم وزراؤنا كالعادة أن المدرسة كانت موقعا عسكريا وسوف يزعم البعض أن هناك محطة صواريخ بجوارها..إلخ..كل هذا هراء..العالم كله يعرف أن هذا هراء لكنه سيصمت..


كان الأمر مجرد انتقام صغير توجهه اسرائيل لمصر بعد تصاعد عملياتها فيما يدعى بحرب الاستنزاف..المصريون يعبرون القناة مرتين على الأقل كل أسبوع لينسفوا سيارة أو يقتلوا جنديا..عبد الناصر يقول للفلسطينيين : فقط أريد أن أسمع طلقة واحدة كل يوم تطلقونها أنتم داخل الأرض المحتلة..هذا يكفي كي تظل القضية حية..


كان لا بد من درس بسيط..وهذا هو الدرس..


فيما بعد سيكتب المصريون قصائد مثل : الدرس انتهى لموا الكراريس و محافظتي الشرقية ومدرستي بحر البقر الابتدائية..ثم ينسى العالم كل شيء..


وحين هبطت لطائرات أخيرا ترجلت من طائرتي..
وبرغمي صعدت على الجناح وطبعت على جسم الطائرة الساخن قبلة حب!