يجب أن نرحم هذا الوطن

يُمكنك أن تقرأ هذا المقال ثم تنهال عليّ بالشتائم، وتقول إنني عميل وفلول

و... و... لكنها كلمة حق يجب أن أقولها.

يعرف
قارئي جيدا أنني رجل لا يطمع في منصب، وقد عُرضت عليّ جائزة أدبية مهمة
فاعتذرت عنها؛

لأنني لا أستحقها، ويعرف أصدقائي أنني مهمل جدا في تحصيل
مستحقاتي المالية،

دعك من أن قلبي توقّف مرتين عن العمل في يوم واحد،

وحياتي خاضعة لمزاج جهاز قد يعمل أو لا يعمل في اللحظة المصيرية؛

أي أنني
جرّبت الموت ولم أعد أخاف شيئا أو أطمع في شيء..

كل هذه المقدمة الطويلة
لأُذكّرك بأنني صادق تماما، وأنني أتكلّم لأن "دماغي كده".

دعني
أُذكّرك كذلك بأن أصدقاء كثيرين كتبوا لي بعد خطاب مبارك العاطفي الثاني
يقولون:

"الرجل الكبير سيرحل.. كفانا ما حصلنا عليه"
؛ فقلت في أكثر من مقال
إن الثورة يجب أن تستمرّ،

وتوقّفها الآن سوف يؤدّي إلى انفراد أمن الدولة
بكل منظّمي 25 يناير،

ولسوف "يقزقزهم" كما "نقزقر" اللب، دعك من أن "مبارك"
لن يصدق ولن يرحل..

سوف يجتمع مجلس الشعب ويبكي ويتوسّل له كي يبقى.. لقد
كذب الرجل في كل وعد قطعه من قبل.

عندما اندلعت أحداث شارع محمد محمود كتبت في "بص وطل"

مقالا أقول فيه إنني كنت ضد الاعتصام؛ لكن بعد كل هذا الدم وكل هذا العنف لم يعد مناص من التمادي والانتقام..
اسم المقال هو: "فليحفظ الله مصر"، وأعتقد أن السيناريو يتكرّر هذه المرة حرفيا.

إذن.. يمكنك أن تتهمني بقصر النظر أو الغباء عندما أقول إن مصر تفلت منا، وإن كل الأطراف مُخطئة: الجيش والمعتصمون والصحافة.

لكن
لا تقل إنني أكتب مدفوعا بأي حسابات، وليتني أستطيع قول نفس الشيء عن معظم
السادة

الذين نقرأ لهم أو يُطالعوننا في الفضائيات..
عندما أقرأ لشخص
يؤيّد الجيش والمجلس العسكري الآن يخطر لي أنه فاز في الانتخابات،

ويريد
ضمان الوضع الحالي، وعندما أرى من يتشنّج في رفض الجنزوري -قبل أن يكذب
بصدد المذبحة،

أو يرفض الانتخابات منذ البداية- يخطر لي أنه غاضب؛ لأن
الإسلاميين فازوا بثمار الثورة،

بينما لم ينَل هو شيئا، إنه يخشى الكلام
بصراحة؛ حتى لا يُهدم ما قاله من قبل عن الديمقراطية،

والشعب الحكيم،
وسُلطة صناديق الاقتراع.

من البداية لنتفق على بعض الأمور:
1-
أنا لا أُدافع عن المجلس العسكري.. أعني أنني لم أعد أدافع عنه؛ فأداؤه
مشوب بالأخطاء،

ويسمح للكثيرين باعتباره يعمل من أجل مبارك، وأرى أنه يجب
أن يرحل فعلا اليوم قبل الغد.


2- لا أوافق بتاتا على قتل المتظاهرين
والمعتصمين وفقء عيونهم، والفتاة التي جرّدوها من الثياب في الشارع

و..
و.. وكل هذا الميراث،

وبالمناسبة فأنا لا أوافق كذلك على عرض صورة جسد
الفتاة العاري على الصفحة الأولى للصحف؛

فهي طريقة رخيصة للبيع تتنكر في
ثياب إلهاب المشاعر؛ لكن هذه قصة أخرى.



3- كذلك لا أقبل بحال
التنازل عن دماء الشهداء.. لا بد من القصاص العادل،

وبالمناسبة فطالب الطب
الشاب الذي اسْتُشهد في الأحداث الأخيرة قيل إنه من طنطا، ولربما درّست له
يوما ما.


4- كل آثار العالم لا تساوي دم شاب مصري واحد؛ لكن من
الغريب أن تسود نغمة

(في داهية كتاب "وصف مصر" قدام اللي ماتوا)..

إن مصر
تتكوّن من مجموعة من اللمسات والرموز الثقافية والجمالية،

ونحن نفقدها في
كل يوم ونفقد الحسرة؛ لأننا نفقدها. لماذا نفقد هذا الكتاب الثمين؟

ولماذا
نفقد هؤلاء الشباب؟ كان بوسعنا أن نحتفظ بالاثنين؟


5- الأسوأ هو
أنك لا تعرف الحقيقة أبدا.. كل طرف يؤكد أن من حرق المجمع العلمي هو
الآخر،

وكل طرف لديه صور لرجاله ينقذون المخطوطات، نفس الكلام يُقال عن رمي
المولوتوف وإطلاق الرصاص؛

لكن الفيلم الذي رأيته على الأقل يظهر رجال
الجيش يطلقون الرصاص.

لو كنت أختلف مع أي من هذه النقاط الخمسة؛ فأنا شيطان رجيم مستحق للعنات،

وعليّ أن أتخذ مكاني في سجن طره مع مبارك.. اتفقنا؟







أقول اليوم بملء فمي إنني لم أعد خائفًا من الحرب
الأهلية.. لأنها بدأت فعلاً..

لم أعد خائفًا من الصدام مع الجيش لأنه حدث
فعلاً.. والآن ماذا أفعل والبعض يعتبرون الجيش عدوًا لهم؟

، وأرى على
الانترنت من يطالب بالتسلح وبدء المقاومة الشعبية !

وما هو مصير بلد ترى
بعض فئاته أن جيشه هو عدو الشعب رقم واحد ؟ هنا يجب على المرء أن يصرخ:
توقفوا !




الكل يشيطن الطرف الآخر . الكل يقذف السباب واللعنات .. الكل لا يصغي لك. كل واحد كتيبة مسلحة وحده.


الكل مخطئ.. لا يوجد ملائكة.. الكل يدفع هذا الوطن نحو الهاوية، إن
الاعتصام حق مكفول للجميع؛
لكننا سئمنا الاحتكاك.. الاحتكاك الذي يحدث
بسرعة البرق،
ويكفي أن تسببه كرة قدم أو جندي جاهل يبول من أعلى، وفي كل
مرة يرد الجيش بمذبحة،
وكما قال لي صديق: "كأن ابني يتشاقى فيطلقون عليه
الرصاص"،
هكذا يصير هناك دم وتصير للتظاهرة القادمة شرعية لا شك فيها،
وبالتأكيد ستكون أعنف.

إن المعتصمين رفضوا الجنزوري من قبل أن يخطّ
حرفا واحدا أو يصدر قرارا واحدا..
تعنت لا شك فيه لمجرد البرهنة على أنهم
الطرف الأقوى،
لن نرحل حتى يرحل الجنزوري، ثم تأتي الشرطة العسكرية..
ومن
قال إن رجالها العسكرية يتمتعون بالكياسة أو الرقة؟ هكذا تسيل دماء
المعتصمين،
وتصير هناك شرعية أقوى للتظاهرة القادمة.

لم يعطِ أحد
الجنزوري فرصة؛ تولى الرجل بينما كل الصحف تنتقده وتشتمه وتسفه من
اختياراته قبل أن يختار؛
حتى تمنيت لو قال للناس انتخبوا أنتم ما دمتم بهذه
البراعة! ثم بدأ يتحرك في نشاط،
وبدأ رجل الشارع يتحدث عن عودة الأمن
وحملات اعتقال الخطرين، والأمل في تحسّن الاقتصاد،
لو قلتم إن هذا لم يحدث
فأنتم لا علاقة لكم بالشارع أبدا،
ولا تركبوا التاكسي ولا تقفوا في طوابير
الخبز، لم يستمر هذا سوى أربعة أيام ثم وقعت المذبحة،
فتصايحوا جميعا: ألم
نقل لكم أنه سيئ؟؟ يقول البعض إنه لا بد أن يدفع ثمن أحداث شارع محمد
محمود!
وهل كان موجودا عندما وقعت هذه الأحداث ؟

لا أعرف ما حدث مع
الجنزوري ولا لماذا كذب؛ مع أن الفضائيات تنفي كلامه بشدة؛
لكن أذكّرك أنهم
رفضوه قبل أن يكذب كأنهم رأوا بأنف طويل منذ اللحظة الأولى فتنبأوا.
حلم
الجنزوري بأن ينقذ السفينة ويدخل التاريخ؛
لكن مصر اليوم أشبه بثور هائج لا
يمكن ركوبه أو التنبؤ به، ثور يجري نحو الهاوية.

الحرب الأهلية سوف
تضع "الإخوان" و"السلفيين" في مواجهة الشباب الليبرالي؛
لأن الإخوان
يعتبرون كل هذه الضوضاء محاولة لإفساد فرصتهم في الوصول إلى البرلمان..
الحرب الأهلية تضع الجيش في مواجهة الجميع، الآن يمكننا تصور المرح الرائع
الذي ينتظرنا.
. السبيل إلى احتراق مصر وتقسيمها أو التدخل الأجنبي.

أما
عن الإعلام فهو يعيش أسعد أيامه.. كن حذرا لو قلت حرفا لا يناسب
المتظاهرين لانتهى أمرك للأبد ولتلقيت اللعنات..
لا بد أن تكون الأكثر
حماسة وغضبا،
القاعدة الثانية هي أن أي شخص يتشاجر أو يتضارب مع الجيش أو
الشرطة على حق دائما،
وهو مناضل لا يمكن انتقاده.. عليك أن تتملق الثوار
مهما بلغوا من شطط أيد أي تظاهرة، ارفض كل قرار حكومي.

أقول
للصحفيين: اتقوا الله.. أنتم مسئولون عن كل من يموت، مثلكم مثل الجيش
بالضبط،
تغلي دماء الشباب فيندفعون للتهلكة، ويندس وسطهم بعض البلطجية
الذين أرسلهم لواءات أمن الدولة السابقون، تتطاير الطلقات، ويموت طالب طب
وعالم أزهر وسط من ماتوا،
ليس القاتل هو من أطلق الرصاصة فقط.. مَن حرض
الضحية كي تلقي بنفسها على فوهة البندقية مسئول كذلك.

وفي كل مرة
يترك الشباب أرجلهم تنزلق للفخ بذات الطريقة،
وفي كل مرة نقرأ أن هذا يوم
حزين على مصر، كل أيامنا صارت حزينة، ومن جديد أكرر:
قالت: سررت الأعداء،
قلت لها: ذلك شيء لو شئت لم يكن..
السؤال هو: كيف يمكن لأحد أن يصير رئيس
وزراء بعد كل ما حدث؟
الجنزوري تورط في جرائم قتل بعد استلامه بأسبوع، وصار
مثل حبيب العادلي،
يحيى الجمل لم يكن رئيس وزراء؛ لكنه خرج مصحوبا
باللعنات، وكذلك عصام شرف،
وأحمد شفيق ذهب بمحاكمة علنية في الفضائيات (وهو
الوحيد الذي أراه يستحق).

كيف يرحل المجلس بعد هذا كله؟ وبعد كل
هذه الاحتجاجات؟
ما يحدث يؤكد كل يوم أن المجلس لا يستطيع الرحيل؛ إنه كمن
ركب النمر فلا يقدر على النزول عن ظهره،
وهذا يعني أن الحكم العسكري هو
المخرج الوحيد للمجلس اليوم.

يجب أن نهدأ ونرحم هذا الوطن، على الشباب تقليص الاحتكاك إلى أقصى حد ممكن على سبيل وقف الذرائع.

يجب
أن نسمح لفترة الانتخابات أن تمر بسلام، ويجب أن يصير لنا رئيس جمهورية
بأسرع وقت،
وعندها نحاكم ونرغم كل مُخطئ على دفع الثمن، ولسوف تتضح خيوط
هذه المؤامرة العملاقة،
وهل هي تخطيط شيطاني من أعوان مبارك فعلا أم هي
حماقة منا.

إما هذا وإلا تكفلت الميليشيات المسلحة التي ستجوب
الشوارع المحترقة بتصفية الحساب بنفسها،
ولعاد الإعدام على الهوية، ولتحسر
علينا اللبنانيون؛
لأنهم سيتذكرون حربهم التي دمرت كل شيء ولم يكسبها أحد،
فقط سيجوب الفنانون العالم يغنون كم كانت مصر جميلة وكم كانوا يحبونها.

انتهى
مقالي.. سوف تنهال عليّ الشتائم بكثرة على الأرجح،
فطرق النقاش هذه الأيام
صارت بسيطة جدا.. بالطبع لم يعُد أحد مستعدا للاقتناع بأي شيء،
وقد قررت
على كل حال ألا أكتب في السياسة ثانية أبدا، سأعود إلى الكتابة في مواضيع
عامة؛
لأن كلماتي قد تكون خطأ أو لا تقنع أحدا.

لكن لو احترقت
ديارنا بأحبائنا بداخلها، لو أعلن المجلس الحكم العسكري وعدنا لعام 1954،
لو تم تقسيم مصر أو دخلتها القوى الأجنبية؛
عندئذ تذكّروا أنني كتبت يوما
أحذّر جميع الأطراف مما هو آت فلم يصغ لي أحد؛
لأنهم كانوا يشتمون بعضهم
ويشتمونني
.