غريزة المعرفة . الفلسفة من منظور العلم

لقد سعى العقل البشري لفهم أسس وبدايات وجوده , و وجود هذا الكون , وسعى لفهم معنى وغايات هذا الوجود .
هذا في الواقع ما يقوم به الإنسان عندما يتفلسف . فهدف الفلسفة السعي لمعرفة المسائل جوهرية في حياة الإنسان , ومنها الموت والحياة و الواقع , و المعاني , و الحقيقة . فالأساطير والأديان والعقائد هم فلسفة .
لقد كانت الفلسفة في بادئ عهدها ( وما زالت ) تبحث عن اصل الوجود ، والصانع ، والمادة التي اوجد منها ، أو بالاحرى العناصر الأساسية التي تكون منها . والتفكير في الكون و موجوداته وعناصر تكوينة , والبحث في ذات الإنسان :
ما الحقيقة؟
كيف أَو لِماذا نميّز بين ما هو صحيح أَو خاطئ ؟
كَيفَ نفكّر ونقيم ونقرر؟
ما هي الأشياء التي يُمْكِنُ أَنْ تُوْصَفَ بأنها حقيقية؟
ما الحكمة؟
هل المعرفة ممكنة؟
كَيفَ نعرف ما نعرف؟
هل هناك اختلاف بين ما هو عمل صحيح وما هو عمل خاطئ أخلاقياً ( بين القيم ، أو بين التنظيمات )؟ وإذا كان الأمر كذلك ، ما ذلك الإختلاف؟
أَيّ الأعمال صحيحة ، وأَيّها خاطئ؟
هَلْ هناك قِيَمِ عامة مطلقة ؟
كيف يَجِب أَنْ نعيش؟
ما طبيعةالأشياءِ؟
هَلْ بَعْض الأشياءِ توجد بشكل مستقل عن فهمنا؟
ما طبيعة الفضاء والوقت؟
ما طبيعة الفكرِ والمعتقدات؟
ما هو الشيء جميل؟
هل الجمال حقيقية موجودة ؟
كيف تختلف أشياء جميلة عن القبيحة؟
ما الفن؟

متى يتفلسف الإنسان
إنه يتفلسف عندما يفكر ويتساءل : "وماذا بعد ذلك ؟ " . " ماذا كان قبل ذلك ؟" . " كيف يحدث هذا ؟ " . " ما هي بدايات وأسس الوجود ؟ " . " لماذا أنا موجود ؟ " . " لماذا يفشل أحياناً وينجح أحياناً أخرى ؟ "
. . .
أنه يتفلسف عندما تكون معارفه غير كافية , أو غير مفهومة بشكل مرضي له .
إنها غريزة السعي للمعرفة الصحيحة اليقينية , فهو أدرك أهميتها وضرورتها لحياته وتحقيق أهدافه وغاياته . أنه يريد أن يتعلم , أنه يريد معرفة الأسباب , لماذا حدث ذلك , وكيف حدث . يريد معرفة النتائج لما يحدث الآن , ولما حدث سابقاً .
والإنسان ليس هو الكائن الوحيد الذي يفكر ويسعى للمعرفة , فكذلك الثدييات والرأسيات تفكر وتسعى لمعرفة الأسباب والنتائج . وتتعلم وبشكل خاصةً في صغرها , وهي تفكر , وإن كان بدون لغة , وتسعى للمعرفة .
عندما يصل المفكر إلى الأجوبة التي يقتنع بها , عندها يعتمدها , ويتوقف تساؤله وينتهي تفلسفه , وكل مفكر أو فيلسوف عندما يصل إلى أجوبة تساؤلاته , عندها يعتمدها ويبني يقينه , وينتهي تفلسفه .
فبمجرد أن يؤمن الإنسان بصحة فكرة ما أو معلومة ما تصبح يقين لهذا الإنسان يمثل المرجع التي يبني عليها قرارته و تصرفاته وعلاقاته و كل ما يتعلق من بعيد أو قريب بهذا اليقين . وهذا بغض النظر عن الصحة الوقعية لتلك الأفكار والمعلومات .
فالمؤمن بأفكار معينة أوبعقيدة معينة أو دين معين وصل لليقين , وهو ليس بحاجة كي يتفلسف لأنه يملك الأجوبة أو الأفكار والمعارف التي ترضيه ويقتنع بها . فهو عين وحدد الأسس والمنطلقات وكذلك حدد الأهداف والغايات والنهايات . فهو يتبع أفكار وتعاليم فلسفته الذي توصل إليه واعتمدها كيقين .
واليقين إحساس ذاتي يمكن أن ينتقل بين الأفراد بإنتقال الأفكار , صحيحة كانت أم زائفة , و يظل يقينا للفرد . ومن المتوقع أن يحاول نقله لباقي الأفراد , بنقل الفكرة التي يعتبرها يقين لهؤلاء الأفراد لتتحول تباعا ليقين لديهم , وإما أن يؤمنوا بها بدون نقاش , أو يقيموها حسب مراجعهم ومعلوماتهم ويعتمدوها أو يرفضوها .
و الواقع الآن هو أن غالبيتنا يعلمها المجتمع ويبني لها يقينها , فهي تعتمد الأفكار والمبادئ الموجودة , وهي لا تفكر بالبحث عن أفكار أو مبادئ أخرى , فالحياة الا جتماعية تستدعي , وأيضاً تفرض على الأفراد المحافظة والامتثال والتقيد بالأفكار والمبادئ والتصرفات التي يعتمدها مجتمعهم , وتقاوم كل الأفكار والتصرفات الجديدة لأنها تهدد توازن واستقرار المجتمع . فالتفلسف يقاوم اجتماعياً , وهناك وقائع كثيرة تؤكد ذلك " لا تتفلسف " , " هلق مو وقت الفلسفة ". . . .

والتفلسف يمكن أن يوجد في كل مجال الأفكار أو العقائد أو الفنون وحتى في مجال العلوم . ففي كل مجال لم يتم التوصل فيه إلى يقين التام يمكن التفلسف فيه .
ففي مجال العقائد المتعددة والمختلفة , فهناك دوماً مجال للمجادلة والنقاش والنقد والتفلسف , وهذا حسب التحكم في أسس المنطلقات والمراجع , ومراجع القياس والتقييم والأحكام للأمور , أهي أحكام قيمة أم أحكام واقع . وحسب ماتم اكتسابه من المجتمع الذي عاش فيه الفرد .
وكذلك في مجال العلوم الإنسانية , وبالذات قضية النفس والذات والإرادة والحرية لا زلنا في مجال الفروض والأفكار الفلسفية . ولا زال الكثيرون يرفضون قدرت العلوم الفيزيائية والفزيولوجية والعصبية على الوصول لتفسير كافة أمور العفل والنفس والروح والإرادة وبدقة موضوعية دقيقة .
أما في المجال العلمي الدقيق والقوانين الفيزيائية الدقيقة , وبالذات في مجال الرياضيات , فليس هناك مجال للتفلسف ( نادر جداً), لأنه ليس هناك أفكار أو قوانين متناقضة أو مزدوجة , بل هناك نفس الأفكار والقوانين والمعارف المعتمدة من جميع وفي كافة البلاد , باستثناء مجالات في الفيزياء التي ما زالت في طور النظريات .
هل يمكن أن يجادل أو يتفلسف رياضيان في صحة نظرية رياضية أو حل معادلة رياضية , وهل يمكن أن يجادل عالمان فيزياء في صحة قانون فيزيائي , وهل يمكن أن يجادل عالمان في الكيمياء في صحة القوانين الكيميائية , طبعا لا .
وعندما يتم التكلم عن ازدواج المعارف أو الأحكام , عندها نصبح خارج العلم الدقيق وفي مجال الفروض والنظريات التي لم يثبت دقتها , أو في مجال الفلسفي . ففي المجال العلوم الدقيقة , لا يحدث تعديل أو نقض للمعارف العلمي , إلا إذا عدلت الأسس والمنطلقات والمراجع الأساسية , فعندها يجري التعديل والتصحيح لكافة سلسلة المعارف العلمية .
وكما أنه هناك فلسفة الحياة , وفلسفة الفن , وفلسفة السياسة , وفلسفة الاقتصاد , وهناك أيضاً فلسفة العلم في مجال الأفكار والنظريات , وحتى فلسفة في الرياضيات عند أعلى المستويات , فالذي أبدع الصفر , أو أبدع المعادلة , أو أبدع التفاضل والتكامل , أو أبدع العدد التخيلي , . . . قد تفلسف بالرياضيات .

عندما يتفلسف الإنسان يبدع الجديد ويفتح أفاق ومجالات جديدة ليست مطروقة , و عندما تأتي الأحداث والوقائع تثبت أو تنفي ما جاء به ( أي فلسفته ) عندها تنتهي فلسفه .
ولكن هذا لا يمنع من أن يتبنى البعض فلسفته تقليداً وتكراراً, وهم بذلك لا يتفلسفوا بل يقلدون ويعتمدون ما توصل إليه غيرهم وغالبيتنا نفعل ذلك . فالذين يملكون القدرة على التفلسف قلائل .